كلماتٌ تخدشُ الحياء تقتحم مسامعنا الأغنية.. من روائع الكلام إلى الإسفاف

556

عادل مكي /
في منتصف الثمانينيات، قدم برنامج (أصوات شابة)، الذي كان يشرف عليه الفنان فاروق هلال ثلة كبيرة من المطربين الأكفاء، الذين درسوا الموسيقى في أغلب المعاهد الموسيقية، فقدموا أغاني مازالت عالقة في الذاكرة، أمثال أحمد نعمه، وقاسم اسماعيل، وعلي جودة، وكريم محمد، ورياض كريم، وسعد عبد الحسين، وعبد فلك، وغيرهم،
إلا أنهم لم يكملوا المشوار بسبب أو بدون سبب، علماً أنهم كانوا من المقربين في دائرة الإذاعة والتلفزيون، وهنا يطرح حشد من علامات الاستفهام عن سبب توقف مشوارهم، وهل كان الحظ هو السبب في عدم الاستمرار بالنجاح وتقديم أغانٍ أخرى، أم أن هناك أسباباً أخرى؟
قد يتعلق الأمر بالمال وشركات الإنتاج، وقد يعود إليهم، فلربما أنهم تقبلوا الواقع، وفضلوا الانزواء، أو تقديم محاولات خجولة لم يكتب لها النجاح. وعندما استحدث تلفزيون وإذاعة الشباب، قدم سيلاً جارفاً من الأصوات الشبابية التي اقتحمت الشاشة الشبابية مازال بريقها الى يومنا هذا، أمثال مهند محسن، وهيثم يوسف، وحاتم العراقي، وقاسم السلطان، وجلال خورشيد،
ومحمد عبد الجبار، وصلاح حسن وآخرين.
مقومات المعرفة
أما بعد عام 2003 فقد ظهرت أصوات عديدة طرحت نفسها على ساحة الغناء بعد الانفتاح الكبير، وظهور أكثر من قناة فضائية اختصت بتقديم الأغاني المنوعة، خرجت –أيضاً- أصوات مميزة، وأخرى لم يكتب لها النجاح. واليوم -تحديداً- نجد أكثر من ظاهرة
ببروز مطربين لايمتلكون أدنى مقومات المعرفة الموسيقية واحتلال ترندات مواقع التواصل بأغانٍ لاتمت للأغنية العراقية بصلة من حيث جودة التسجيل واللحن والكلام، وعدد كبير منها أصبحت حديث الشارع، واقتحمت أغلب البيوتات العراقية، فهل كان الأمر مصادفة أم ضربة حظ؟
لقد دخلت المفردة العارية من الاحتشام الذوقي عنوة إلى مسامعنا، بكلمات بذيئة سوقية تغيب عنها الرقابة الجمعية للذائقة السمعية. كلمات ما أنزل الله بها من سلطان، فهذ يغني “للصمون عشرة بألف”، لمطرب كان رادوداً مغموراً، فقفز بين ليلة وضحاها ليركب الموجة ويصبح حديث الشارع، فتقتحم أغنيتة (العتيدة) مواقع التواصل، فتسمعها رغماً عنك عند سائق التك توك، وعند البقال، وفي التقاطعات، أو ذاك الذي يناجي حبيبته بأبشع عبارات السب والقذف فيقول في مطلع أغنيتة “نمتي عل فراش الهنا مع شخص ثاني”.
أو مطرب آخر يقول “لحكتني للبستان بتكم يعالم”، فأي إسفاف هذا؟ وبقدرة قادر تراه يحصل على الإقامة الذهبية في دول الخليج العربي وكأنه قدم إنجازاً يضاهي علماء الذرة، أو ربما ينافس زها حديد في منجزها الذي سيخلده التاريخ، ثم يبدل جنسيته العراقية بأخرى، متناسياً عراق الخير أبا النهرين، عكس المطرب العربي أو المصري الذي يعتبر جنسيته خطاً أحمر لايمكن المساس به.
كلمات تخدش الحياء، خالية من ذلك الوجد والعشق اللذين كنا نسمعهما ونحفظهما (بالروح الك مية جرح واحسبها الي حنية) أو (ياحريمة انباكت الجلمات من فوك الشفايف) أو (عاش من شافك يبو حلو العيون). لقد تعودت الأذن العراقية على سماع ذلك الحب العذري من خلال الأغاني، فكم من أغنية كانت سبباً في رجوع عاشق الى حبيبته، أو اشتياق ابن الى أمه في أغنية (يا أمي يا أم الوفه).
روائع لاتنسى
لقد أفنى طالب القره غولي عمره في البحث عن كلمة لم تذكر في قاموس الشعر، كي يناجي بها من يحب، واحترق -ألف مرة- محمد جواد أموري كي يقدم لنا أغاني ترتقي بالروح الى مصافي البهاء والألق، وكم سهر محسن فرحان، ذلك الملحن الفذ في صناعة أغنية عراقية تعمر مدى الازمان، أو جعفر الخفاف الذي قدم روائع لاتنسى مثل (مرة ومرة) و (مجرد كلام) لرياض أحمد،
كم شاعراً احترق كي يبحث عن كلمة عشق جديدة تكون كالماسة التي لايخربها الزمن، حين كان النص الغنائي يحمل مسؤولية كبرى كونه سيدخل الى صميم البيوتات العراقية.
أنا أعتقد أن الأغنية كالقنبلة الموقوتة، فإما أنى تصيبك، أو تصيب غيرك، في محتواها الذوقي والفكري والتطريبي.
أعتقد أن الحب العذري الذي أنشدة الشعراء بعذوبة أشعارهم قد تلاشى أمام هذا الضجيج الذي أقحم أساليب
جديدة حولت مسار البوصلة الذوقية، فصار صعباً أن تسمع أغنية تلامس القلب مع هذا الكم الهائل من التخريبين: اللفظي واللحني، في عشرات الأغاني الهابطة.
نافذة واحدة
قبل مواقع التواصل، التي أتاحت لكل شخص أن يقدم مالديه، كانت أمام الأصوات الشابة نافذة واحدة ووسيلة واحدة للنجاح والشهرة، هي قناة الدولة العراقية الوحيدة، فكان هنالك حرص كبير على تقديم أغان محترمة ومعبرة ومليئة بالإحساس والتوهج اللفظي واللحني لأنها كانت مدروسة بعناية ورقابة صارمة من قبل لجنة فحص الأغاني في دائرة الإذاعة والتلفزيون، ومن خلال نفس هذا البرنامج ظهر الفنان كاظم الساهر واستمر بالعطاء والنجاح فصار نجماً ورقماً عربياً كبيراً.
فهل مازالت الفرصة متاحة للمجتهدين، وكما يقال “لكل مجتهد نصيب”؟ تلك العبارة التي صارت شماعة الإجابة الجاهزة لكل مطرب لم يتقدم خطوة إلى الإمام (مدعياً بأنه كسول). أنا أعتقد أن الفرص تأتي كمرور السحاب، وعلى المتمكن من أدواته، العارف بفن مهنته، أن يقتنصها كي يحقق مايصبو إليه من نجاح، ولايدعها تفلت من بين يديه.