كوابيس بو!

275

جمعة اللامي /

إذا صادفت مواطناً أميركياً من الطبقة المتوسطة، وأنتما على سفر طويل، وأبديت أمامه إعجابك بمواطنه “إدغار آلان بو”، فإن ذلك مقدمة حقيقية لعقد صداقة بينكما ربما لا ينساها بعد انتهاء تلك الرحلة.
“لا قوة إلا قوة الضمير، ولا مجد إلا مجد الذكاء”
(فيكتور هوغو)
أما إذا قصدت مدرسة إعدادية في الولايات المتحدة، أو صادفت معلماً أميركياً للدراسات الأدبية في معهد أدبي أو كلية للدراسات الإنسانية، وتطارحتما في شأن تاريخ الأدب الأميركي، وذكرت أمامه بعض أعمال “بو” القصصية، فلسوف يتأملك الأميركي بإعجاب يزداد، بل ربما يأخذ صفة التواضع والشعور بالعرفان، حين تقول له: يا صديقي، إن عذابات “إدغار آلن بو” أسهمت في تكوين موقفي الأخلاقي من مشكلات عالمنا المعاصر.
إن شهرة هذا الكاتب الأميركي، المعذب بالتباسات ما حوله من أسئلة الوجود، والمسكون بتلك الكوابيس المرعبة لجبروت “القوة العمياء” المسلطة على حياتنا، جعلت شاعراً فرنسياً، هو “شارل بودلير”، يفشي أمره بين الفرنسيين، وقراء الفرنسية، ويقدمه إلى العرب كما لم يقدمه أي كاتب أميركي.
إنه إنسان مرعوب من قوة غامضة، “يراها بفكره”، ولا يستطيع حيالها سوى اللجوء إلى الخيال. تلك “القوة العمياء” المدانة، اللا أخلاقية، هي إحدى اكتشافات “بو” وهديته إلى العالم، قبل أن يسقط من كرسيه عند أحد الأرصفة، وينشطر رأسه إلى نصفين، فيسرع بعضهم إلى حفظ (دماغه) في برّاد إلى يومنا هذا.
ولو أنه عاش في بلاده، زمن المكارثية، لقال إن تلك “القوة العمياء” هي المخابرات المركزية، ولو أن الحياة امتدت به إلى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لوقف عند مفرق أحد الطرقات في واشطن، ولعن “مكنمارا” وقتلة “سلفادور الليندي”.
ولو أنه عاش بيننا مع بداية الألفية الثالثة، لكتب ما لم يسبق له من كوابيس مرعبة، ولقال ان أميركا هذه ليست إلا “القوة العمياء” التي أراها في “فكري” تطاردني آناء الليل وأطراف النهار.
لقد سرقت “القوة العمياء” من “بو” سلامه الروحي في حلمه المتواصل، وأطلقته هو شخصياً إلى عوالم القرون المقبلة، بكونه “كاليغولا” جديداً، متدرعاً بأسلحة الفتك والدمار، ومحاطاً بأجهزة التجسس والتلصص، والدخول إلى أقدس حرمات الناس، من دون استئذان.
أصبحت الـ USA، الآن، كأنها تنتقم من عذابات “بو” عندما تخترع أعداءً وهميين لها في بقاع العالم، حتى أنها باتت لا تطيق أن ترى مؤسسة فكرية، أو دبلوماسية، في بلد عربي على سبيل المثال، تطرح بعض مشكلات العرب، حتى من منطلق الليبرالية الأميركية!