دفّ الصوفية بين شبح التكفير وذوبان التطهير!
عادل مكي/
هيام كونيّ يلين خشونة العالم ويجعله أليفاً حاضراً بين يدي الإنسان بعد أن يربط مجسات روحه بوثيقة العشق وعرفانية التطهير، لذلك عُدَّ التصوف وعاشقوه ظاهرة متأصلة وعميقة في ذاكرة التاريخ، كونه حالة متجردة وأصيلة هدفها السمو والرفعة والتجلي كنزعة فردية وحركة تدعو لشدة التعلق والعبادة والتزهد المعتمد على صفاء القلوب في وحدة الوجود العرفانية فهي صلة بين العبد والرب،
وفي أقصى حالتها تطيب بها الانفس فتعمها راحة نفسية تدفعها نحو سمو الارواح وذكر الله تعالى في حالة من الغبطة والانتشاء الروحاني على لسان جهابذة الاصوات الهادرة القوية التواقة الى الوصول لحالة الالتصاق والانسياب في ذكر خالق الاكوان بعملية انصهار حقيقية هدفها الوصول لأقصى حالات التصوف الكبرى .
يتمحور الفهم اليقيني لتلك العلاقة من خلال امتزاج الروح بالمعاني والكلمات التي اختيرت بعناية فائقة فهي تمرّ على يد جهابذة الدين واللغة للموافقة عليها قبل أن تسلّم ليد من ينوي إنشادها، إذ تصقل في صورة لحنية تعتمد في أغلبها حالة المديح او الموشح او الابتهال لتخرج بالصورة التي يطمح اليها أغلب رجالات التصوف والصوفية، كما تحدثنا كتب التاريخ بأن التصوف نشأ في العراق لبعض المخلصين من أصحاب الحسن البصري في نهاية القرن الاول وبداية القرن الثاني، وأهم رموزها رابعة العدوية وكذلك شيخ الموسيقيين العراقيين الملا عثمان الموصلي، فكان العراق هو المهد الاول للطرق الصوفية إذ يرقد الحارث المحاسبي والجنيد البغدادي ومعروف الكرخي الذين من خلالهم نبتت ونمت شجرة الصوفية التي تنتسب لشيخ الطريقة المدفون في بغداد الشيخ عبد القادر الكيلاني، وانتشرت إبان تلك الفترة الاناشيد التي تطورت بفعل الزمن تطورا كبيرا وأخذت أشكالا عدة ومتنوعة في مختلف البلدان العربية وغير العربية وصارت جزءاً من تراثها الشعبي، وفي العراق تكاد تنحصر في (التكايا) والتكايا جمع (تكية) وهي المكان المخصّص لتلاوة تلك الاناشيد العرفانية بمختلف أشكالها وألوانها المتعددة .
لكن يبقى الملا عثمان الموصلي الاكثر انتشارا؛ فقد سلك هذا الرجل الطريقة الرفاعية، كذلك ارتبط بالتصوف التركي، سافر مرات عدة الى اسطنبول وعاش معززا مكرما في كنف السلطان عبد الحميد، ولاقى دعماً وشغفاً من الاتراك الذين كانوا يستمعون اليه بشغف كبير لا سيما عندما يكون في جامع (أيا صوفيا) في اسطنبول وهو يقدّم روائع بلاغية ولحنية تهفو اليها القلوب، لأن الاثر العثماني في الموسيقى الصوفية كان كبيرا ومميزا لأنها – أي الدولة العثمانية – كانت تسيطر على الشرق العربي سياسيا.
ومن أشهر الطرق الصوفية في العراق الطريقة القادرية والطريقة الرفاعية والنقشبندية والخضرية والنبهانية، وقد لحّن معظم الملحنيين العراقيين ألحاناً صوفية مثل روحي الخماش وطالب القره غولي، إذ بدأت بعض الفرق الشبابية بتاسيس فرق موسيقية وغنائية كفرقة (حلم) وفرقة عازف العود علي حسن التي تمكنت من تقديم نماذج لحنية وغنائية نالت الاستحسان، كونها تبنّت فكرة إحياء ذلك الغناء العريق، أما في مصر فكانت تتميز بوجود أصوات هادرة وكبيرة قرأت القرآن الكريم وأبدعت فيه حتى قيل نزل القرآن في مكة وقرئ في مصر، إذ قُرئ بمصر عبر أصوات كبيرة وعظيمة أمثال عبد الباسط عبد الصمد والمنشاوي والشعيشع وأنور الشحات وآخرين، ولا يغيب قطعاً عن المشهد أبلغ الاصوات الهادرة والنادرة صوت الشيخ سيد النقشبندي الذي ارتبط اسمه بشهر رمضان من كل عام، كونه يعدّ من أروع الاصوات التي قدمت الابتهالات والتواشيح الدينية، فقد أنعم الله عليه بصوت قوي وخاشع وإحساس مفرط بمعاني الكلمات التي ينشدها، فنقل فن التوشيح والابتهال من أروقة الصوفية وزوياها الى آذان المسلمين جميعا وجذب اليه جمهورا كبيرا من محبي تلك الابتهالات والتواشيح معتمدا على أغلب أشعار حسان بن ثابت وكعب بن زهير التي كانت تمدح الرسول الاعظم في خصاله الكثيرة.
لقد اختلفت أساليب الطرق الصوفية من بلد الى آخر، فقد نعتهم الكثير من الناس بالكفر والايغال وفريق آخر يراهم حالة صحية طبيعية هدفها الاقتراب من الله، وبين معترض ومؤيد يبقى السؤال المطروح ماذا قدمت الصوفية بكل أشكالها المختلفة للناس رغم وجودها كحالة شئنا أم لم نشأ في طرح أساليبها الانشادية التي تكاد تقترب من التطريب، كونها تستخدم الالات الموسيقية مثل الطبول والدفوف والناي والعود وباقي الالات؛ كل حسب بيئته التي نشأ فيها.
والجدير بالذكر أن هناك اختلافاً بين مديح الصوفية وذمها، لكنها بالرغم من ذلك بقيت حالة متجذرة من الصعب محوها او الاستهانة بها، كونها ارتبطت بجمهرة كبيرة من السامعين الذين تستهويهم مفردات وطرق تلك الطريقة، فتبعوها ومشوا خلفها ودعموها وهي من جانبها أغدقت عليهم، كونها حالة يصعب محوها لأنها متجذرة بعقيدة راسخة ومتأصلة، فهي قدمت روائع بلاغية اعتمدت في أغلبها على قصائد المدح النبوي والرباني في قوالب لحنية من الصعب الاستهانة بها ومن عدة مقامات لحنية عربية وتركية وفارسية ساهمت في ديمومتها طوال الحقب الزمنية المختلفة، ولهذا فإن هذا الفن له قواعد وركائز ظلت قائمة الى يومنا هذا بوصفه فناً من الفنون الصعبة التي تحتاج الى عازفين مخضرمين وأصوات غنائية جبارة تعرف كيف تتعامل مع قصائد شعرية بلاغية كبيرة وألحان صعبة الاداء والعزف، لذلك بقيت الطرق الصوفية محافظة على كينونتها الروحية ومتعددة المشارب والاقطاب، إذ بلغ تعدادها أكثر من ثلاثمئة طريقة صوفية متوزعة في شتى بقاع الارض والجنسيات، منها ما عاش وتجذّر روحياً في العقائد الى يومنا هذا، ومنها ما لاحته يد التقادم الزمني بالاندثار والتلاشي شيئاً فشيئاً.