قرضة حسنة !
حسن العاني/
منذ تطوّرت الصحافة وأصبحت واحدة من أهم وسائل التعبير عن الرأي، وصانعة للرأي العام، أطلقوا عليها اسم (مهنة المتاعب)، وهذا التوصيف يعبّر فعلاً عن طبيعتها والدور الذي تؤديه، لأنّ صناعة الرأي العام مثلاً – لا سيما في البلدان التي تحكمها أنظمة رجعية او متخلّفة – يعني أن الصحف تعمل على بلورة موقف يتحرّك بالاتجاه المضاد لتلك الأنظمة، ويسعى الى تغييرها –
ومن هنا فإنّ مهنة المتاعب يجب أن تتحلّى بأعلى درجات الحرية والشجاعة والنزاهة المهنية، أما (الجرايد) التي تصدرها (الحكومات) لتكون في خدمتها ومدافعة عنها، فتنفي عنها صفة المهنية والاستقلالية وتمثيل الناس والشجاعة..
الصحف الصادرة في ظل الأنظمة (الدكتاتورية والديمقراطية) على حدّ سواء تتعرّض باستمرار الى المساءلة والحساب والعقوبة، ومن الطبيعي أن تتفاوت العقوبات من هذا النظام الى ذاك، في العهد الملكي مثلاً كان غلق المطبوع لمدة معينة هو أشهر العقوبات.. وبمناسبة الإشارة الى النظام الملكي فقد حظيت الصحافة في ظلّه بقدر عظيم من الحرية، ومما يذكر في هذا المجال: إن رئيس الوزراء (نوري باشا) استدعى يوماً الصحفي الكبير (نوري ثابت) الى مكتبه، وقال له بهذا المعنى: (نوري سعيد يبني دور سكنية للمواطنين – يشيد جسور ومدارس ومستشفيات ومصانع… يفتح شوارع… يبلط طرق.. ويحير شيسوي.. وجنابكم ما تذكروا بكلمة خير عابرة.. لكن اذا صدر عنه أي خطأ مهما كان بسيطا تقيمون الدنيا على رأسه.. ليش.. شنو السبب؟!) ردّ عليه نوري ثابت متسائلاً: (باشا… اتكلم وما تزعل؟!) أجابه الباشا: (أنت تعرف آني ما أزعل اذا الكلام صحيح… تفضّل) ، وهنا قال له الصحفي: (باشا اذا آني ما اشتمك واشتم الحكومة.. منو يشتري جريدتي)، وضحك نوري السعيد من أعماقه، وودّع الصحفي الى باب مكتبه وهو يكرّر على مسامعه (اشتم براحتك) والضحك لم يفارقه!!
دأبت الأنظمة الدكتاتورية على معاقبة الصحفي بالسجن اذا وجّه نقداً للسلطة وإن كان عابراً او خفيفاً، وقد تصل العقوبة الى بضع سنوات، وربّما الى الإعدام او الاغتيال كلّما كانت مناسيب النظام الدكتاتورية مرتفعة…. أما في عموم الأنظمة الديمقراطية – العراق من ضمنها – فَجَرَتْ العادة أن يقوم (المسؤول) بتقديم شكوى الى المحكمة يطالب فيها الصحفي الذي نقده بتعويض مالي قدره مليار دينار، وهذا من حقه، ولكن الذي فات المسؤول لجهله بأحوال الرعية، أن الصحفي لو امتلك ربع مليار لترك مهنته ولغاويها وعاش عيشة الملوك والوزراء والبرلمانيين!!
على المستوى الشخصي أقول: لو كان معي مليار دينار لنقدت وانتقدت من أريد ونمت قرير العين لأول مرة في حياتي، ولكن مشكلتي لا تقف عند هذا الحدّ، لأنَّ عدد الذين يستحقون النقد (مئة) أو أكثر فمن يقرضني (100 مليار) قرضة حسنة لوجه الله ؟!