أم كلثوم وعبد الوهاب في “انت عمري” لقاء السحاب الذي فكّك سطوة السنباطي
عادل مكي/
قطعاً، مُحيّرٌ جداً حينما تكون المعادلة حنجرة “الست” التي يلمع فيها عود عبد الوهاب، ولحنيّة عبد الوهاب التي لا تكتمل دون بحّة أم كلثوم. القطبان اللذان دفع كل منهما ثمن الوصول الى القمة باهظاً، فالعلاقة المتآلفة تارة والمتذبذبة تارة أخرى ما بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب تعود إلى فترة الأربعينيات في مصر. حين كان كلاهما من أبرز الفنانين والمطربين في تلك الفترة التي شهدت شرارة الود بينهما بالاحترام المتبادل لمواهب بعضهما بعضاً، كانت أم كلثوم تعتبره فناناً استثنائياً ومغرمة بصوته وأسلوبه الموسيقي، ومن جهته كان يحترم ويُعجب بأدائها وقدرتها على تقديم الأغاني بشغف وعاطفة.
في عام 1972 حدثت مأساة عاطفية أثرت على العلاقة بينهما، إذ توفي ابن أم كلثوم إبراهيم الحجازي، الذي كان محمد عبد الوهاب يعتبره كأخ وصديق، وقد تأثرت كثيراً بفقدانه وتدهورت حالتها الصحية. وبعد هذه الفاجعة ضعفت العلاقة بينهما نسبياً. وعلى الرغم من ذلك، استمر الود والاحترام المتبادل بينهما حتى آخر أيامهما. وعلى الرغم من أنهما لم يتعاونا مثل السابق، إلا أنهما ظلّا يعتبران بعضهما بعضاً فنانين كباراً ويشيدان بإرثهما الموسيقي، باعتبار أن قصة العلاقة بينهما تعكس حالة إلهام للأجيال اللاحقة، ولاسيما بعد (لقاء السحاب) الذي يعتبر تحفة فنية استثنائية تجمع بين أداء أم كلثوم اللافت وتوزيع موسيقي رائع من قبل محمد عبد الوهاب. فقد حققت الأغنية نجاحاً كبيراً في ذلك الوقت واستمرت في إبهار الجماهير لعقود من الزمن. وبعد محاولات عدة من وجهاء المجتمع المصري وصولاً إلى الرئاسة المصرية التي تمنت أو فرضت أن تكون هذه الأغنية بمثابة احتفالية بعيد ثورة يوليو، فهذه الأغنية كانت نقطة مفصلية في تاريخ الموسيقى العربية، ولاسيما أن عبد الوهاب أراد من خلالها، وعلى الرغم مما كانت توصف به أم كلثوم من (دكتاتورية)، أن يسجل مقدمة موسيقية أثرت على كل ما جاء بعد هذا التاريخ، علماً بأن قوة هذا اللحن وحداثته جعلاه في متناول كل القادرين على غنائه ولا يزال حاضراً حتى يومنا هذا، وسيبقى.
لاقت (انت عمري) نجاحاً منقطع النظير، وأصبحت على كل لسان منذ اليوم الأول لإذاعتها، بل إن صداها قد تعدى المنطقة العربية وغنتها بعض الفرق الأوروبية، ولاسيما في اليونان، ودخلت البيوت والمدارس ومعاهد الموسيقى والأندية والمقاهي والصالات، وأصبحت اللحن المفضل والمطلوب في أي ملتقى، إذ جن الناس بها جنوناً من فرط حلاوتها.
وكان هواة الموسيقى يبدأون تعلم الموسيقى خصيصاً ليتعلموا عزف هذه الأغنية، أما من تعلم الموسيقى قبل ذلك فقد طغى اللحن الجديد على كل ما سبق وأصبحت أصابعه تعزف اللحن تلقائياً. جدير بالذكر أن كثيراً من المهتمين صاروا يترقبون ذلك الانقلاب الغنائي المدهش، من بينهم من يترقب من ناحية خفية كيف سيكون رد فعل السنباطي على ذلك الغزو لمملكته الكلثومية، وهو الذي كان متربعاً على عرش التلحين للست منذ عقود طويلة، فببساطة يمكننا القول إن السنباطي وبعد جولة بدا فيها مهزوماً، سرعان ما استعاد أنفاسه ليلحن لأم كلثوم عدداً من الأغنيات والقصائد التي منذ (أقولك أيه)، وبخاصة (الأطلال) وصولاً إلى (القلب يعشق كل جميل)، عرفت كيف تجعل (هزيمته) حالة مؤقتة، أو بالأحرى هزيمة على المدى القصير ستتحول تدريجياً إلى انتصار كبير على المدى الطويل.
لقد تحدثت الصحافة كثيراً عن انتهاء سطوة السنباطي على أم كلثوم، فقد كان يعتبر بالنسبة لها المعلم الأول الذي قادها الى النجاح بالأسلوب السنباطي، لكنه ظل ينسج ألحانه بهدوء غير مبالٍ بالأحاديث الجانبية، فالسنباطي تميز في عشرات الألحان التي وضعها لأم كلثوم، فارتبط باسمهما ارتباطاً وثيقاً، وكانت ألحانه لها أفضل ما غنت، ومن هنا كانت رنة الانتصار الخفية تبرق في عيني السنباطي منذ أواسط سنوات الـستينيات، أي منذ أن غنت أم كلثوم من ألحان عبد الوهاب، لكن أياً من أغنياتهما لم يرق إلى روعة وكلاسيكية بعض أجمل ما لحن السـنباطي لأم كلثوم، بل لربما يصح القول بأن الروعة الحقيقية قد طغت على لحن (الأطلال) الذي وضعه السنباطي على شكل تحد فني رائع في الوقت الذي كانت فيه (انت عمري) قد جددت شباب السيدة الكبيرة وفتحت أمامها دروباً جديدة، فأتت (الأطلال) لتعيدها إلى الجادة الأصيلة وتذكر بأعظم ما كان لحنه لها السنباطي خلال عصرهما الذهبي. أتت لحظة التألق الكبرى ليس فقط في المعركة مع عبد الوهاب، بل في الغناء العربي ككل.
لقد كان نجاح (انت عمري) لعبد الوهاب هو الشعلة التي ألهبت السنباطي وحركت فيه مكامن الإبداع ليقول للجميع “أنا السنباطي الذي لا يشيخ او يهرم.” لقد كان التنافس على أشده في من يصل بصوت أم كلثوم الى أماكن ومديات جديدة وعملاقة، فعبد الوهاب والسنباطي كانا منجم الذهب الذي غرفت منه أم كلثوم أقراطا وحليّاً ذهبية وأيقونات لحنيّة فريدة خلدها متحف الإبداع والجمال الحقيقي.