قبل أن نفقد الذاكرة

1٬150

احمد عبد الحسين/

ببطءٍ وطولِ أناةٍ كانت الثقافةُ العراقية تقفُ كلَّ يومٍ مقاوِمةًالظلام، لتعلن أنّ للعراق وجهاً آخرَ لا يستطيع اخفاءه الإرهابُ ولا فسادُ الفاسدين ومحاصصتهم.

لم يكدْ يمرُّ يوم دون أن يكون في بغداد حدثٌ ثقافيّ تتناقله نشرات الأخبار ليكون ضداً مضيئاً لأخبار الساسة. ولم تمرّ مناسبة إلا واستغلها مثقفو العراق ليعطوا للعالم فرصة أن يرى عراقاً مختلفاً.

أندهشُ حين أقرأ لأشخاصٍ عجولين قولهم أن “المثقفين لم يفعلوا شيئاً”. كلّ أصبوحة شعرية كانتْ بذرة لتظاهرة احتجاج. كلُّ ملتقى أدبيّ كان هتافاً ضدّ الخراب. كل جائزة يحصدها مثقف كانتْ مقتلاً لأميين أوصلتهم الرافعة الطائفية إلى سلطةٍ ومالٍ وفير. كلّ حفلة للفرقة السيمفونية، كلّ مسرحية، كلّ أغنيةٍ، كلّ معرض، بل حتى مجرد لقاء مثقفينِ اثنين في مقهى؛ صدقوني، مجرد التقاء مثقفين على استكان شاي أو كوب قهوةٍ هو فعل مقاومة.

الإرهابيون نشروا الموت، الموت الحقيقيّ رعباً وتفجيراً وتقطيع أشلاء وخطفاً واغتيالاً، كما نشر إخوانهم الساسةُ الموتَالمعنويّ بإهمالهم المدينة وتركها نهباً لأذواقهم السقيمة وحنينهم الأبديّ إلى الجهل والتخلّف. لكنّ المثقفين لم يدخروا وسعاً للعمل بعمقٍ على أن يكونوا قلباً نابضاً أبداً بالحياة.

المثقفون هم من أنقذ بغداد من المغول. أنقذوا بغداد من هولاكو المختبئ في جحره ويرسل فرق الموت. المثقفون بكتبهم، بأصبوحاتهم وأماسيهم، بغنائهم ورقصهم وموسيقاهم ورسمهم ونحتهم،كانوا هم المنقذين من التلف. حتى أزياؤهم وألوان قمصانهم وقصات شعورهم ونكاتهم، حتى خلافاتهم وعركاتهم ومماحكاتهم، كلّ ذلك كان الشيء الحيّ الوحيد في بغداد التي أراد لها الجهلةُ، الأغنياء الجدد، أن تصبح أثراً بعد عين.

كانتْ الحرب شرسة، فاللصوص امتلكوا المال والسلطة والسلاح، ومع ذلك قاومنا، كتبنا عنهم بشراسة، دفعنا دماً، تظاهرنا وكان الثمن فصلنا من أعمالنا، هُددنا، وهُددت عوائلنا، حوربنا في أرزاقنا، وقفنا شوكة في عيونهم، في الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء وصبيحة كل جمعة في المتنبي الذي كان ولم يزلْ المعقل الذي تنمو فيه ثقافة بغداد، كما في ساحة التحرير التي يقود احتجاجاتها مثقفون بارزون.

تذكروا ذلك قبل أن تتعجلوا بكلمة.

لنتذكرْ أن العراق لم يزل حياً بعونٍ من مقاتلين أبطال نزفوا ولا زالوا دماً في الدفاع عنه، وبعونٍ من مثقفين أمنوا به بعمقٍ وقاوموا ـ بمواقفهم ـ الإرهاب واللصوصية!