في تحية الجسد الراقص.. تسيفتلانا زخروفا تروي كارمن على البولشوي
طالب عبد العزيز/
أمضيتُ وقتاً طويلاً في مشاهدة باليه(كارمن) المأخوذة عن رواية الفرنسي بروسير موريه، والتي صاغ موسيقاها جورج بيزيه، وعرضت بفرنسا، أول مرة في العام 5781 ولم تلق الاهتمام، بسبب من أخلاقيات الزمان التي كانت سائدة يومئذ
لكن العبقري تشايكوفسكي تنبأ باليوم الذي ستغدو فيه كارمن عملاً عظيماً، لذا سأكون مأخوذاً بالذي قامت به العظيمة تسيفتلانا زخروفا Svetlana Zakharova على البولشوي، هي التي أدت الروائع، (بحيرة البجع) مثالاً. وهنا، لن أتحدث عن الأبيض والأزرق الذي أغرق المسرح بمن فيه، لن أتحدث عن البجعات اللواتي كن يتقافزن على القلوب قبل تقافزهن على المسرح، أنا غير قادر على كتابة ذلك، الساعة هذه، فقد أخذ العمل العظيم هذا من روحي الكثير.
لكنني سأختبئ مع نفسي الأمّارة بالجمال، مع الغجرية الحسناء كارمن، المتعجرفة المتقلبة المزاج، التي تحاول إغواء الرجال، ومنهم دون جوزي، الشرطي الإسباني الذي وقع في شراكها، حيث قامت (كارمن) بدفعه الى نسيان حبيبة طفولته، والتخلي عن واجباته العسكرية، والانتهاء على حافة الجنون، الى أن انتهى به المطاف الى قتلها، بدافع الغيرة من مصارع الثيران الوسيم اسكاميلو الذي تربّع على عرش قلبها. لا بل سأنجو من ذلك كله، الى ما يتداخل مع الطفولة والحياة التي كانت لدي، مع المستقبل الذي كان يمكننا رؤيته عند أبنائنا، لو كنا امتلكنا السبيل لتحقيقه. الموسيقى والشعر والباليه والأوبرا خلاصة شعوب أدركت مبكراً أن لا حياة خارج ذلك.
وكنت قبل نحو من ثلاثين سنة قد عشت أجمل اللحظات مع كراس صغير، كثير الرسوم والتخطيطات، كان العبقري رمسيس يونان قد كتب ورسم وخطط صوراً عديدةً، صاغ ما لم يصغه فنان من قبل حياة كاملة، أمدها ساعتان، تلك التي قضتها فينسيا ردغريف راقصة، حافية على البولشوي. الكراس الذي فقدته مع ما فقدت من تحف ونفائس. أنا أستعيد ردغريف في صورة زاخروفا، أي مخمل سيغطي روحك ساعة تعجز عن المفاضلة في الجمال. هلا أتذكر الشوارع قطعها آخر الشعراء الروس القرويين (سيرغي يسينن) هل آتي على أسماء المدن التي جابها وهو يبحث عن إزيدورا، الراقصة الأمريكية، تلك التي قطع شريان يده من أجلها في إحدى حانات موسكو.
لكنني لطالما سألت نفسي السؤال الساذج هذا: ترى لماذا لم تترسخ لدينا قيم مثل الذهاب الى المسرح، ولماذا باتت ممارسات مثل دخول السينما والحضور لسماع الموسيقى خارج حياتنا، لماذا تحولت الأفعال الطبيعة في الجسد مثل الرقص والاحتفال بكينونته الى إيذاء الجسد وتعذيبه بالسلاسل والسكاكين، لماذا تراجعت عندنا قيم الجمال وأفعال الخير، والتي منها الموسيقى والإنصات لأجراس الطبيعة باتجاه الرصاص والموت، أما كنا جديرين بذلك كله، وما الذي نختلف فيه مع شعوب الأرض. ألم يكن نداء الخير واحداً بين البشر؟
وبين افتتاني بمتابعة حركات الطفلة اللعوب زخروفا على البولشوي، وبين انصاتي للموسيقى التي تحرك الجسد المطواع والذي كلما انحنى أو كاد يسقط تلقّفه حشد الراقصين، أحاول تدوين ما يعن لي لحظة بلحظة، لكن الطفلة راحت تخطو على الخشب، تمرح، تأخذها ساقاها الى ما وراء المسرح، ومثل إوزة كسر الموج قدمها، راحت تسحُّ بها، فيأتي الشرطي الإسباني دون جوزي مرة ليحملها بعيداً، وساعة يتعبها الرقص واللعب والغنج تذهب تتقي حسدها من مطر خلف الغابة، تعدو وتدور وترد تسحُّ ما تسح من نزقها وعجرفتها على أصبع قدمها الأول، في نسق ملول بين العناية والإهمال، بين الصدق والكذب، بين الجمال المفرط والذهول به، لكنها ستظل تنقر أرض المسرح(البولشوي) به، مثل حبات انفرطت من عقد ماسٍ ثمين.
وفي إحساس مني لم يخالجه أيُّ إحساس آخر، رحت أنصت للجسد الراقص، خارج ابتذاله في رؤوس البعض، وقد انمحت المفاتن، وانكفأت في سريرها الإيروتيكا، نائمة مستيقظة، حيث لم يعد النهد والساق ورأس السبع أمكنة لتخيل بعيد، لم يعد الكولسون الصغير ولا حمالة الصدر البيضاء، التي تزرق أحياناً مركزين للافتتان وانحلال الوقت، ها أنا محترق بالجسد الراقص المحترف، وهو يلقي عليّ بآيات الجمال، وهو يحدثني عن بطولاته وانتصاراته، وهو يملي عليَّ أبجدية المعرفة التي لم تكن لولا حضوره خارج البهاء هذا. كانت كارمن ( زاخروفا) تأتي بالماء الثلج، فتقذف به على جمهور الحاضرين، تأتي بأجنحة من مطر أبيض شفيف يكاد يزرق وأوراق من أشجار البتولا وتلقي بها على الخشب، الذي ظل حائراً بين خضوعه ميتاً، وبين حياته في الغابة، حيث كان، ما الذي يحدث على البولشوي ياترى، هل كانت زاخروفا بإصبع قدمها الأول تبحث عن غريم آخر، غير الشرطي الإسباني دون جوزي، غير مصارع الثيران اسكاميلو. نعم، كانت.
لم يكن لي أبٌ يأخذني الى المسرح، وما سمعت من أحد يقول: تعال، الليلة سنذهب ونسمع الموسيقى، أنا ابن فلاح خسر في حياته أشياء كثيرة، فقد باع أجداده الكثير من أرضهم مفادين بها أبناءهم الذاهبين لحروب سلاطين الأسيتانة، نحن أبناء الفلاحين في الشرق اللعين هذا، خسرنا طفولتنا في الطين والأزقة الضيقة ونحن نخسر حياتنا في حروب الطوائف والأوطان المستحيلة. لكننا، نعيش خيال أقراننا في الأرض البيضاء هناك، حيث لا تفهم ولا تقاس الحياة إلا بالموسيقى والشعر والرقص وكؤوس النبيذ. هناك، حيث يكون الجسد الراقص مكافئاً لمعاني الجمال.