تارا الصالحي:أنا لا أرسم .. اللوحة هي التي ترسمني!
علي الساعدي/
تشبّه تارا الصالحي أمها بسمفونيّة هذا الكون الراقص كما تتخيله، والذي يبدأ سلّمه الموسيقي على نغمات ونوتات قلب ست الحبايب وحقل الحنان اليانع أمها، صاحبة العقل المطعّم بنكهة العزم والتصميم على ولوج صعاب الحياة وتذليلها، وكأنها الأصابع الناعمة التي رسمت بها كلّ نجاحاتها الفنيّة، كما تقول تارا.
وتصف تارا أباها بأنه الصديق المُضحي الذي تركت طفولتها بين أحضانه وكأنّه القطعة الأشهى والأعظم من كعكة الحياة الناضجة ومائدتها التي مازالت تشم بها خبز بيتها المطعّم برائحة أيام زمان.
تابوات شمعيّة
وتعتقد تارا أن المرأة في العالم العربي، عنوان جدلي كبير، فالمرأة القويّة تلك المخبوءة بين طيّات عقلها، لطالما تصارعت داخل دوّامة الإنسان.
وتؤمن أن الرسالة الصميمية تنطلق من داخل المرأة قبل المجتمع والتابوات والعيب المجتمعي، لأنّها هنا ستكون شجاعة بما يكفي لتعترض على كلّ ماينتهك إنسانيتها أو يضعها بمرتبة ثانية، أنها بحاجة لأن تصرخ أمام المرأة ومن داخلها “أنا المجتمع”.
وتقول: لطالما كنت أحرص على حضور المشاركات المخصصة لهذا الشأن تحديداً، ومنها إحياء يوم المرأة العالمي في منتدى نازك الملائكة وفعاليات معرض”الآن وقت الشباب”، وكُرّمت بشهادة تقديرية من بعثة الأمم المتحدة قلدني إياها السيد”جيورجي بوستين” في يوم السلام العالمي 2013، وقبلها شاركتُ بأكثر من معرض تشكيلي يصوّر للعالم قضية المرأة داخل المعهد الثقافي الفرنسي، أمّا آخر عمل لي فقد كان داخل السفارة الهولندية ببغداد، وهُنا في ألمانيا أقمت معرضي الشخصي الأول والذي حمل عنوان “شمع أحمر” حيث طرحت فيه الخطوط الحمر التي توضع على الأنثى الشرقيّة داخل مجتمعاتنا الشرقية المغلقة.
ذاكرة الحنين
وكأي طيرِ ترك عشّه كعلامة دالة على وطنٍ ينام كلّ ليلةٍ على كتفه وإن لم يره، تقول تارا: تظل الفرشاة والقلب المعجون باللوحات مثل ذاكرة لاتنام ولاتعرف تبديل أماكن الوطن والأحبّة بمنحنيات الغربة، فالحنين فرشاة ماهرة وعنيدة حين تبدأ معها أبجدية اللوحة المعجونة بالحنين والوجع الذابل، الشوق البعيد لأصدقاء أكثر المحطات بكاءً وفرحاً، يتقاطر مع اللون نثار دجلة والفرات، كلّ خطوة لون داخل البورترية تقص لناظرها ملامح بغداد وكم هو مكلف ذلك الشوق المكتوم بين الصدور، فمازلت أشم رائحة النار وصراخ الثكالى والناجين بلا آباء من محارق الحروب، كلّ لوحة أرسمها لامرأة جنوبية تكافح بين حشائش الأرض وفرحة مواسم الحصاد، أركز على ملامح وجهها فيقبع القلق والفزع والخوف من المحيط، برغم كل محاولات اللون بتغيّب المرارة ولوعة النفوس، حتى ابتسامات الأطفال وأحلام البراءة كانت تتمخض على اللوحة بشاكلة أمنيات تنتظر على قارعة الأمل بفجرٍ جديد.
الجسد والروح
تنظر تارا الصالحي الى رسم العُري كقضية تحدٍّ إنساني بحت، وربّما كسقاية يومية لوردة على حافة الذبول وتتحدى الحياة.
وتقول: أنا أصرّ على رسمه كلوحة باستمرار، فالمحاذير الاجتماعية الظالمة صوّرت الجسد كنوع من النبذ والمجون، مع أن دلالات الجسد هي أقرب صورة عاكسة لما يختلج باختناقات الروح، وأول صورة عارية رسمتها عام 2013 علماً أنني واجهت سيلاً كبيراً من الانتقادات والتلاعب بالتابوات الجامدة، كما دُعيت بعدها لجلسة نقدية لاذعة وبحضور الفنان التشكيلي ورئيس القسم “محمد الكناني” ومجموعة من النقاد المهمين، أُثيرت فيها تساؤلات واستفهامات حول كيفيّة وجرأة السمو الروحي داخل اللوحة للجسد العاري قياساً للقيود العرفيّة التي تكبّله كجزء من الكينونة الإنسانية، فجسد الأنثى كوعاء رمزي فيه دلالات تعبيرية عميقة وتحمل جمالية المرأة وتحرّرها.
قطنة الحنان
أن يرمّم الفنان أو الشاعر وطناً خاصاً به ومن ثم يمسح عليه بقطنة من الحنان كي لايشيخ أو يمرض، ليضعه في جيبِ قلبه الدافئ، كلما أراد الخروج لمكان غريب، فرشهُ وجلس يحدثه عن وطنه البعيد في الضفةِ الأخرى، والذي قُدرّ له أنّ ينمو وسط النار لتأكل الحروب أبناءه بمهارة. فرشاة المشاعر هي التي تجسد عملي فلوحتي جزء مني وأنا جزء منها كل منا يكمل الآخر، كما هو حضن الوطن الذي أتحاشى التفكير بالرجوع إليه لأنني، كما غيري سأضطر لزيارة الأماكن العالقة بقلبي، وسأستمتع بكل خرابه وقهره وكأنني أليس في بلاد العجائب، فالفنان كائن حزين تجده يتألم من منظر فطر بوسط الحائط فيعبّر هنا عن ألمه بعمل كامل، أو يرى زهرة حزينة ولاتملك فماً للصراخ، وما عليه هنا سوى أن يرسم بطريقته ذلك المخلوق النبيل وجهاً وملامحَ وعنواناً.