الجذور نسغًا وحائط آمان

1٬272

ياسين النصير/

لا تعني الشجرة التي نراها أمام أعيننا، بأغصانها وتفرعاتها، وأوراقها الخضراء واليابسة إلا صورة جدلية لمعنى تجاور الحياة والموت، هذه الصورة التي نعيشها ونمارس وجودنا عبرها، واحدة من الطرق الفكرية بألا تؤخذ أية ظاهرة إلا بكليتها، فليست الشجرة ما يظهر منها على السطح فقط، إنما هي الجذور وتفرعاتها والتربة وخصوبتها، والطيور التي تعشش فيها، والحطّاب ومواقد الشتاء، هي هذا التكوين الغامض الذي يزيّن حياتنا بالمجهول. فما ثبت منها في الأرض، وما تساقط ليس إلا مظاهر لمعنى الشجرة، فالشجرة هي الجذور التي لم تر، وفصول السنة التي تمرَّ متفاعلة معها، وهي السجل الزمني الذي تدون عليه تغيرات الفصول والثمر، ولذلك كان للمطر حضور، وللضوء حضور، وللظلام حضور، أمّا جذورها فكائنات تستحم في أعماقنا، لتجلب لحياتنا الثمر. كم كانت المثيولوجيا خصبّة عندما تربط حكاية الحياة بحكاية الموت، فعممت رؤيتها للجذور المشتركة بين أن يكون لنا آباء وأجداد مغادرون وأبناء حاضرون وقادمون، وإذا كانت للشجرة عروق تمتد في فضاء الأعماق. فلنا ملايين العروق التي توصل نسغ الإنسانية بحياتنا اليومية.. ودائمًا ثمة كائنات حيَّة تتلمس طريقها عبر الأغصان والجذور لمنابع الخصب.
تشكل الجذور أرضية فلسفية لبحث أية ظاهرة، فاللامرئي فينا، يستقر في الجذور، ومدونات أيامنا تتغذى من نسغ الماضي، لتصبح – كما يقول جيل دولوز- دراسة جذور الشجرة أكثر جذريَّة من دراسة فروعها، فهي لا تبدأ من ساق لتتفرع من هناك، بل هي تعرض عددًا من الأمثلة المتجمعة لنصيّات فعالة» هكذا تحدد الجذور مصادر المعرفة، وفي مثال السيرة الذاتية لأية شخصية أو نص، تكون الجذور أكثر أصالة للصدق.
وتعد الشجرة وواقعيتها تكوينًا رمزيًا لفترات العيش العراقي، إن سيرة الزعيم عبد الكريم قاسم مثلًا، ونصب الحرية لجواد سليم، وتمثال الأم لخالد الرحال، وعشرات الأمثلة، تعد أشجارًا تقرأ بمرور الزمن من مرئياتها الظاهرة أمام أعيننا ومن لا مرئياتها المتجذرة في حياة شعبنا، فالجذور الدفينة في المثيولوجيا العراقية والحضارة الرافدينية، منبعًا للتأصيل، وفيها تستحم جدلية الفرز بين شعب ينشد الحياة وقوى عمياء تسد عليه نوافذ التحديث. إنَّ رمزية الجذور في نصب الحرية، تطلعنا كم هي متغلغلة في مثيولوجيا وفنون سومر وبابل، وكم كان تمثال الأم لخالد الرحال واحدًا من تأصيل حضور الخصب في أرض خصيبة الجذور، وما مكونات نصب الحرية الأربعة عشرة، الذي شيد في زمن عبد الكريم قاسم، إلا رمزية منفتحة على التأويل: ثورة 14تموز، 1958، و14 محافظة عراقية هي مكونات العراق، وكأن النصب يعيد لنا زمننا الحضاري بوصفة نواة كامنة في الجذور.
الشجرة: هذا الكائن الحي المتجدد، معين رؤيتنا الفلسفية للحياة، حيث الجذور نسغًا، وحائط آمان يستظل فيئه المهاجرون، وظلًا تبني طيور العراق فيه أعشاشها.