محلة سراج الدين.. تتنفس التاريخ وتتباهى بفسيفساء سكانها المتحابّين

1٬937

حيدر الجابر/

من الصعب ان تتعرف إلى هذه المحلة برغم قدمها، فقد فقدت اسمها مرات وظل يطلق على حي صغير منها يمثل اليوم أزقة ضيقة عدة تتداخل مع بعضها ولاتتصل بشارع كبير ولا بدلالة مهمة سوى جامعها الذي اخذت منه اسمها، وأهميتها التأريخية.

حين تدخل إلى الشارع المؤدي الى ساحة الوثبة من جهة النهضة، يملأ حواسك النشاط والحركة منذ الصباح الباكر، فعلى جانبي الشارع تنتشر المطاعم التي تقدم وجبات اليوم كاملة، فهناك مطاعم تختص بوجبة الفطور فقط، (القيمر العراقي والصمون الحار والشوربة).

وأخرى تقدم المشويات والوجبات العراقية المشهورة مثل التشريب والقوزي وغيرها، إضافة الى المقاهي الصغيرة التي تقدم الشاي بنكهته البغدادية. هذا باختصار هو شارع الصدرية، أحد أهم معالم بغداد، والذي تستمر الحركة فيه طوال أيام الأسبوع، منذ الصباح الباكر وحتى ساعات متأخرة من الليل.

من أحد الأزقة المتفرعة على اليسار، تبدأ إحدى أقدم وأهم المحلات في بغداد القديمة، وهي محلة (سراج الدين) التي سميت نسبة الى عالم سراج الدين الرفاعي.

حافظ الدروبي وعباس الديك

المحلة قديمة جداً تاريخياً، ولها خصوصيتها من ناحية النسيج الاجتماعي، ففيها يسكن العربي جنباً الى جنب مع الصابئي والإيزيدي والكردي ، والناس هنا مسالمون وطيبون. وسوق سراج الدين له خصوصية بالنسبة للمهن التي كانت تمارس فيه، فكان البزازون بالدرجة الاولى، اضافة الى القصابين. ومن المهن التي انقرضت بسبب تطور الحياة، حرفة غزل ونسيج شعر الماعز لصناعة بيوت الشعر. وتشتهر الأكلات الشعبية في هذه المحلة مثل الباجة والهريسة، وقد برزت شخصيات رياضية وفنية من أبناء هذه المحلة، منهم: المصارعان الأخَوان الحاج حسن والحاج ابراهيم، والمصارع مجيد كسل والحاج عباس الديك، وبالنسبة للفنانين فمن أبناء المحلة الفنان اسماعيل الشيخلي والتشكيلي حافظ الدروبي وعبد الحميد الدروبي والناقد عبد الوهاب الشيخلي.ويؤكد أبو إحسان، أحد أقدم البائعين في المحلة، أن محلة سراج الدين تبدأ من راس الساقية المقابلة لباب الشيخ وحتى الشارع.

أكبر تجمع للبزّازين

وأضاف أن المحلة تضم أكبر تجمع للبزّازين، لكن عددهم تناقص تدريجياً بمرور الزمن وحلّ محلّهم العطارون ثم الصاغة، وقد تغيرت تركيبة السكان بعد أن انتقلوا إلى محلات أخرى على مر السنين.

ويستذكر أبو إحسان المناسبات الدينية السنوية والطقوس الجميلة التي بقيت مستمرة حتى الآن مثل رمضان الكريم الذي تلاحظ فيه مشاعر الناس الحقيقية، ومناسبة زكريا الجميلة جداً لأن المشاركين بالأساس هم الأطفال أولاً، والذين يحملون الشموع وأغصان الياس بعد المغرب بقليل. وفي أيام عاشوراء يشارك كل الناس بلا تمييز بين مذاهبهم ويعم شعور واحد لأن الحسين (ع) هو رمز للحرية والأخوّة، ومصيبته مصيبة كل الخيّرين في العالم، وكان من أبرز القراء في أيام عاشوراء قارئ المربعات فاضل رشيد، وكان حادياً يقرأ بصوت حزين يثير الشجن، وفي وسط المحلة يقع مسجد ومرقد الشيخ سراج الدين، الذي أنشئ قبل أكثر من 700 عام، وتقام فيه صلاة الجمعة والصلوات الخمس.

بئر ماء

والشيخ سراج الدين، كما يقول إمام المسجد الشيخ جمال الفهداوي الرفاعي، هو “الشيخ سراج الدين محمد بن محمد بن عبد الله المخزومي الواسطي الرفاعي، أحد شيوخ التصوّف، وله كتاب في التصوّف، و6 مجلدات في التفسير، وعاش داعية ينتسب الى الرفاعي السادس نسباً والخامس الى الخرقة الرفاعية”.

كانت المحلة تسمى الصدرية نسبة الى صدر الدين قاضي بغداد الاول وهو عالم صالح تقي، ثم سميت سراج الدين رسمياً ولكن الناس ما زالوا يسمونها الصدرية. والمحلة عبارة عن سوق قديم للأسماك والجلود والقماش والذهب، وأهل المحلة طيبون ولا فرق بينهم دينياً ومذهبياً ولم تعان من آثار الصراعات الطائفية على الرغم من التدخلات الخارجية.

عاش سراج الدين دهراً في العراق، ثم استقر في مصر أعواماً للدعوة، ثم رحل الى الشام قاضياً وعالماً، ثم عاد الى العراق واستقر في هذا المسجد. والمشهور ان هذا المسجد موجود قبل مجيء سراج الدين، وقد سمي باسمه لأنه اشهر إمام للمسجد.

أسس سراج الدين المدرسة الرفاعية التي تدرس القرآن والنحو والصرف والمنطق والأصول ، ويأتي اليها الطلاب من كل حدب وصوب، وبعد وفاته دفن الى جانب الحرم. وتوجد سقاية ماء تمت إعادة تأهيلها في 2004 بعد ان تعرضت المنطقة الى شحّ المياه، وقد أكد الشيخ جمال الفهداوي وجود بئر ماء، وبعد البحث تم اكتشاف هذا المكان لينبع الماء زلالاً، حيث توفر الماء للمنطقة كلها، وما زالت البئر تمتلئ بالماء ومن المقرر ان يتم تجديدها.

تعاقب أئمة وخطباء كثر بعد سراج الدين من أبرزهم عبد السلام الشواف مفتي بغداد، المعروف بأنه صاحب الإسناد بالعلوم العقلية والنقلية الى الرسول (ص)، وبالنحو إلى أبي الأسود الدؤلي والإمام علي (ع)، والشيخ جمال الفهداوي أحد تلاميذه.وقد أخذ الشواف الإجازة من صفاء الدين البندبيجي المتوفى في عشرينات القرن الماضي، ثم أجاز الشواف كثيراً من علماء بغداد منهم العلامة عبد السلام الذي أجاز عبد الكريم دبان البغدادي مفتي الديار العراقية السابق. ومن أبرز من مرّ على المسجد الملا علي حسن داوود القادري العامري الحافظ المتقن التقي الورع الذي استمر ثلاثين عاماً خطيباً في هذا المسجد. ويقول الشيخ جمال الفهداوي إنه تسلم منصب الإمامة في 2003 وما زال حتى الآن. وتبلغ مساحة المسجد 2600 م، وقد كان الحرم في الجهة الشمالية، وله من الأوقاف 120 محلاً و70 بيتاً و6 عمارات. وقد تم تحويل الحرم الى الجهة الغربية أيام الرئيس الأسبق عبد السلام عارف الذي صلى في الجامع، ولما رأى الزحام وضيق المكان أمر ببناء الحرم في الجهة الغربية، حيث تضاعفت مساحة الحرم ثلاثة أضعاف.وقد دفن الشيخ سراج الدين في ضريح داخل المسجد، كما دفن العلّامة عبد السلام الشواف بالقرب منه.

نشاطات دينية

وأشاد الشيخ جمال الفهداوي بالملا علي حسن داوود العامري عالم القراءات الذي أقرأ أكثر من 70 حافظاً من عاصم وأقرأني 7 قراءات، وقد تخرج على يديه كثيرون منهم ملا ياسين العزاوي ومصطفى رعد العزاوي.

ويضم المسجد المركز الإقرائي المجاز منذ 2007 وحتى الآن، والذي كان العامري مشرفاً عاماً عليه حيث يمتحن الطلاب ويقر الإجازات.ومركز سراج الدين هو مركز خاص بالقرآن وقراءاته فقط وتعليم أحكام التلاوة، فبعد أن ينهي الطالب الختمة يعطى الإجازة بعاصم. وفي كل مولد نبوي تتخرج دورة قرآنية.ويضم المسجد المدرسة الرفاعية التابعة للمركز النعماني التابع لرابطة علماء العراق، ويتم فيها تدريس النحو والصرف والمنطق والبلاغة.

ويتكون المسجد من مرقد وغرفة إمام، كما أنشئ حرم جديد للنساء ومدرسة إقرائية للخطبة والصلوات، وتقام أذكار وسورة تبارك وحلقة تصوف كل خميس. وتوجد غرفة للحرس وقاعة مركز إقرائي للمناسبات.

ومن أهم النشاطات التي يشهدها المسجد هو المولد النبوي، حيث تتم دعوة أبناء المنطقة جميعاً ومن المذاهب والقوميات كافة، ويقدم المسجد خدمات ومساعدات والمشاركة في عزاء الإمام الحسين (ع)، حيث يشهد المسجد تجمعات للتعزية الحسينية.