حسين الركابي.. الرسام الذي استبدل الأضواء بحضن الطبيعة

1٬176

إياد عطية الخالدي/

على غير عادة فناني المحافظات العراقية الذين يحلقون بأحلامهم صوب العاصمة العراقية بغداد حيث الأضواء والشهرة والطريق الأقرب الى العالمية، وحيث المعارض الكبيرة في عاصمة لطالما تنفست الفن قبل ان تحل عليها لعنة الحروب المتلاحقة، فتضيع بوصلتها ويخبو ألقها ويصير الفن مجرد بضاعة في سوق كاسدة، قلب الفنان التشكيلي حسين الركابي تلك المعادلة التقليدية وحزم حقائبه مغادراً مدن الأضواء والصخب في هجرة عكسية الى مدن الطين ليستقر في قرية سومرية منسية في اقصى شمال مدينة الناصرية اسمها “الحسينيات.”

وبالرغم من ان عزلة الركابي فرضتها ظروف قاهرة عصفت بالفن العراقي ولاسيما الفن التشكيلي، ودفع ثمنها ألماً وتراجعاً مريراً، في ظل غياب مريب لمؤسسات الدولة ووزارة إنما أنشئت لرعايته وبث الحياة فيه، ودعم رموزه واحتضان مبدعيه، بيد ان حسين الركابي يعدها فكرة طالما راودته نحو عالم فسيح يحتاج اليه كل فنان تشكيلي كي يواصل انتاجه الابداعي ويظل ممسكاً بريشة ألوانه في رحاب الطبيعة لافتا الى تجربة الرسامين الفرنسيين الانطباعيين وهو يتحدث بثقة عن نجاحات قطفها واخرى في الطريق وعن عوالم وحياة اخرى كشفتها عزلته في كوخه الطيني البعيد الذي بناه بنفسه.

في كوخه الصغير الذي تهاجمه رياح وعواصف شديدة لايقوى في الغالب على الصمود امامها، فتتبعثر اللوحات وفرش الرسم والألوان، لكن الامل ظل صامداً منذ ان توجه الركابي الى هذه القرية قبل خمس سنوات وحوّلها الى ملتقى للفنانين والأصدقاء الذين تحاصرهم المدينة بحياتها الرتيبة، ليبدأ به الركابي حياته الجديدة بعيداً عن بغداد التي اكمل فيها دراسته الأكاديمية.

عوامل كثيرة دفعت الفنان حسين الركابي لما يسميه “الانسحاب من حياة المدن الكبيرة” فهو باحث دائم عن الحرية ومتمرد ضد كل مايستلب انسانيته من ظلم واضطهاد، ويؤكد الركابي ان المؤسسة الثقافية العراقية اصيبت بوباء الفساد مثل جميع مؤسسات الدولة، فتلوثت القيم التي نمت عليها الثقافة العراقية، وهذه المؤسسات اثبتت على الدوام عجزها عن مواكبة المستوى الهائل من الرقي والعطاء الذي بلغه المبدع العراقي.

يرفض الركابي فكرة ان يكون مشروعه هذا مغامرة لتحريك الضمير الثقافي في البلاد، مشدداً على ان الضمير يمكن ان يصحو في اجمل الأماكن ومن دون مغامرات وتضحيات، لكنه لاينفي ان مافعله هو محاولة لمن وصفهم بأبناء الداخل لترميم جانب من الخراب الذي يحاصر احلامهم، مؤكداً ان محاولته هذه اثرت في الأوساط الثقافية وقوبلت بتقدير عال من مختلف الاوساط الفاعلة اجتماعيا وثقافيا.

ويقر حسين ان للريف طقوسه المختلفة تماما على ماتربى عليه ابن المدينة، لهذا كانت تجربته انسانية ايضاً، فهو تفاعل مع هموم وتطلعات المزارعين حوله وشاركهم معاناتهم، كونه اصبح راعياً مثلهم، ومن هنا صار كوخه ملتقى لأبناء العشائر، مثلما هو مكان لتعليم اطفالهم الرسم وتنمية المواهب التي يظهرونها، مادفعه الى اقامة معرض خرابة حيث تحولت حيطان الأكواخ والصرائف الى كاليريهات لعرض لوحات فنانين استهوتهم فرادة الفكرة وغرائبيتها، حينما يكون جمهورهم البعيد عن المدنية والذي لاتعنيه قضية الفن واخباره هم جمهورهم وكانت مفاجأة هائلة حين وجد الفنانون تفاعلا غير متوقع من اهالي الريف بأعمالهم الفنية.

أمضت “الشبكة العراقية” نهاراَ جميلاً في كوخ حسين الركابي وجمعتنا به مائدة الغداء وجلسة مع رعاة الغنم الذي صار الركابي يعد نفسه جزءاً منهم، تحدثوا لنا عن معاناتهم من شح المياه، وغياب العدالة في توزيعها بين القرى، وتلك نشاطات اخرى لكوخ الركابي ومهام فرضتها عليه طبيعة الحياة التي اختارها، كوخ أثر في مجتمع وتأثر به، ولهذا اتسعت مهامه مع تعدد انشطته، ولهذا يأمل الفنان حسين الركابي ان تلتفت الدولة الى هذه التجربة المهمة والمؤثرة ايجابيا في حياة سكان الريف كي تأخذ الفكرة مدياتها الكاملة وتجعل من الفن وسيلة لبناء الانسان كما هو دوره.