صديقي راكبُ الدرّاجة الهوائية
جواد غلوم/
أصدقكم القول قرّاءنا الأعزاء، ان أجمل من أطلّ عليّ زائرا قبل بضعة أيام هو صديق أكاديمي ضليع أحبه ويحبني منذ الفتوة، ومازلنا أصدقاء اقرب الى الالتحام العاطفي والنفسي وقد نكون اكثر عمقا من المثَل السائر عند العرب حينما يقولون عن اثنين تحابّا في الله حبا خاصا خاليا من شوائب الطمع والتسلق والغايات والمصالح الشخصية السائدة هذه الأيام ويمكنني ان أقول اننا “صديقان لايفترقان مثل مالك وعقيل”، كما يقول مثلُنا العربيّ الشائع.
جاءني صديقي المسنّ الذي تجاوز السبعين عاما بهيّ الطلعة نشطا سعيدا ممتطيا دراجته الهوائية قاطعا مسافة تقترب من سبعة كيلومترات من بيته الى بيتي وهو في أفضل حال، لم يأخذ منه الإنهاك الاّ نفَسا متقطعا سرعان ما استعاد توازنه بعد ان سقيته قدحا من خير ماء دجلة وشاياً أخضر مما اعتدنا تناوله معا.
لم أره قبلا يستخدم الدراجة الهوائية في زياراته لي او في تجوالهِ، فهذه الظاهرة غير سائدة لدينا باستثناء الفتية الصغار والشباب مع انها شائعة في اغلب المجتمعات المتحضرة وغير المتحضرة، وأعجب لماذا العزوف عنها، فهي ترويض للجسد أولا وللنفس ثانيا وتخفيف من عبء الزحام الذي أخذ يتفاقم في الآونة الأخيرة، فضلا عن انها وسيلة نقل نظيفة تُشعر الانسان بالسعادة والمتعة الفائقة، لكنها مع الاسف غير مألوفة عندنا وقد يتعرضّ راكبها الى التندّر والسخرية والاستهزاء خاصة اذا كان الرجل مسنّا او امرأة تريد التنقل بدراجتها هنا وهناك من أجل التسوق او ممارسة الرياضة بواسطتها. ولا ادري بالضبط ماهو العيب في امتطاء آلة جميلة ترويضية تبعث في النفس الراحة وانشراح الصدر والتسلية ورؤية الفضاء الطلق المفتوح والاستمتاع بمرأى الشوارع ومعالمها، ما يبعد التوترات والضغوط النفسية التي يتسم بها معظم العراقيين أكثر من غيرهم، عدا عن منافعها الجسدية في إحراق الدهون وتقوية العضلات وتنشيط الرئة والأطراف وتحسين عمل عضلات القلب والشرايين وتحسين الدورتين الدمويتين. وكم من الممارسات النافعة والصحية وغير الخادشة للحياء اعتبرت عيباً ومثاراً للتندّر والاستهزاء في أوساطنا الاجتماعية مثل الترويض بالهرولة في الساحات والمتنزهات وبمحاذاة الشواطئ.
يقول لي محدثي الصديق الزائر انه منذ الآن سيقود الدراجة ولن يتركها فهي بمثابة صالة رياضية متنقلة، فجولةٌ جميلة مجانية على الدراجة بلا تاكسي الصخب بسياراته الخردة المستوردة من مناشئ غير متقنة التي امتلأت بها بغداد، ومن دون الاستماع الى لغو بعض سوّاقها النزقين للوصول الى مبتغاك، إذ أن امتطاء الدرّاجة لمدة خمس عشرة دقيقة تعدل ساعتين ترويض في الصالات والنوادي الرياضية التي تستنزف اجورها جيوبنا شبه الخاوية، فضلا عما تتيحه الدراجة من متعة القيادة في الهواء الطلق والتخلص من اختناقات الطرق التي لاتطاق، والترويض المجاني للجسد وتحريك العضلات والمفاصل وتخليصها من التكلسات وإنقاص الوزن ووسيلة مهمة للحفاظ على اللياقة البدنية والنفسية على السواء.
ليتنا نهدأ من جعجعة وهدير وضجيج السيارات التي كثرت بشكل مهول وغير مدروس وأزير المحركات النافثة للعوادم ونتخلص من الإهدار المفرط في الوقود غير النقي بسبب احتوائه على كميات مخيفة من الرصاص والذي نستعمله الآن بعكس الدول المتقدمة الأخرى التي لم تعد تستخدم هذا النوع السام والملوِّث في بلادنا.. ولا أخفي سرّا ان اذكر ان مليون لتر من البنزين يهدر يوميا بسبب الزحام ووقوف السيارات في طوابير السيطرات والحواجز وماكناتها لا تنطفئ اثناء الخناق المروري الذي اضحى شبه دائم في الشوارع والساحات في بغداد وحدها.
لا أحد يتحرج من سكان الدول المتحضرة من امتطاء الدراجة، بل شاهدنا مرارا الرؤساء والمسؤولين الكبار يتخذونها وسيلة نقل جاذبة وممتعة، فقبل بضع سنوات فاز اليسار اليوناني في الانتخابات وترأس الوزارات، وأول شيء عمله الفائزون هو التخلي عن سيارات الدولة المخصصة لتنقلاتهم وفضّل الكثير الاستعانة بالمترو والنقل العام، لكن الأعمّ الأغلب منهم ارتأى ان يمتطي درّاجته للتنقل من وزارته الى البيت وبالعكس، فما أحرانا ان نحذو حذوهم، وما الضير ان نكسر طوق الخجل والتردد ونحزم أمرنا على ترويض اجسادنا وأنفسنا باستخدام الدراجة الهوائية حالنا حال شعوب العالم، عسى ان يقتدي بنا نوابنا ومسؤولونا ووزراؤنا ليتركوا أرتال سياراتهم بزعيقها وصفير إنذارها واستحواذها على الطريق وشلّة حماياتهم المرعبة وهي تصيح بهذا وتطيح بذاك من أجل فسح المجال لها، وليتهم يكونون قدوة لنا ليركبوا دراجاتهم الهوائية مثل أقرانهم زعماء الدول الأخرى ونتعلم منهم وهذا مانتمناه، مع اني اعلم علم اليقين بأن مثل هذا التمني لايعدو كونه رأسمال المفلسين والواهنين وبالأخص في بلادنا التي لا تريد ان تعلّم أبناءها وحتى شيوخها الميّزات والصفات الحسنة.