الحب في زمن الكوليرا

918

أ.د.قاسم حسين صالح/

لا تكاد تمر عطلة صيفية دون ان اتصفح او أعيد خلالها قراءة رائعة ماركيز (الحب في زمن الكوليرا). ولقد شاهدت أحداث الرواية في فيلم سينمائي بالعنوان نفسه تعامل المخرج معها بطريقة تجعلك ترغب في مشاهدته ثانية.

يبدأ الفيلم من حيث تنتهي الرواية.. بموت زوج ( فرمينا – حبيبة البطل) وهو طبيب وسيم أحبها جدا وأنجب منها. وفي اللحظة ذاتها كان (فلورنتينو – بطل الفيلم) ينام مع (أمريكا).. شابة جميلة بعمر حفيدته!. يفتح الشباك فيرى المشهد الجنائزي. يودّع (امريكا) ويذهب لبيت فرمينا حبيبته التي صارت عجوزا ويقول لها:

ـ هذه هي اللحظة التي انتظرتها 51 سنة و 9 أشهر و 4 أيام، والآن منّ الله عليّ بتحقيق عهد الوفاء الأبدي والحب السرمدي.

توبخه على وقاحته، كيف تجرّأ بهذا الكلام في يوم وفاة زوجها. تطرده وتأمره أن لا يريها وجهه بعد الآن.
تمر أيام .تهدأ.. تفتح خزانتها .. تقرأ رسائله وترى في احداها خصلة من شعره.. ويبدأ الفيلم يحكي قصة حبهما وهما شابان.

المهم هنا، تساؤل سيكولوجي: شاب يقع في حب فتاة ويرفض الزواج من غيرها منتظرا نصف قرن ليموت زوجها! ..هل هذه حالة صحية أم مرضية؟

قد يكون صحيحا قول شاعرنا:

(نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب الا للحبيب الأول).. ان كان يعني به: أن القلب يبقى يحن لحبيبته الأولى حتى لو تزوج ثلاثا!. لكن فلورنتينو لم يتزوج، وقرر أن لا يمارس الحب طوال حياته، الى أن اغتصبته امرأة في ليلة ظلماء ففتحت شهيته نحو الجنس.. وافتتح يومها كتابا عنوانه: (النساء)، يسجّل فيه اسم الفتاة وتفاصيل الواقعة! حتى بلغ مجموع مغامراته (622) فتاة وامرأة !. ولما سأله شاب عن سرّ تعلّق الفتيات به، أجاب:

ـ انني أؤذيهن بمتعة من شدة ألمي.

فيما يعني نفسيا أنه يجد فيهن بديلا يتوهمه حبيبته فيمارس الحب معهن بعنف اشتياقه لها، او ربما عقاب لخيانتها له.

والحالة المرضية هذه اسميها (عُصاب الحب). وأعني بالعصاب دافعا قسريا يسيطر على صاحبه ويلّح عليه لتنفيذه، يطرق على رأسه بمطرقة ولن يدعه يرتاح الا حين يحققه. وبوصف فلورنتينو الجميل: (أنها- يقصد حبيبته- شظية لايمكن اخراجها!) .وينتهي الفيلم بمشهد زواج العروسين (العجوزين) في سفينة يطلب فلورنتينو (مالكها) من قبطانها رفع العلم الأصفر للدلالة على وجود اصابات كوليرا فيها تمنعها الاقتراب من الساحل، ليبقى مع حبيبته بالبحر..للأبد!

تتهيأ لإستقباله، يدخل فيقول:

ـ هذه اللحظة التي انتظرتها 54 سنة وسبعة أشهر و 11 يوما وليلة، بقيت فيها بتولا من أجلك!

يندسان في الفراش، يضمها الى صدره (قلبي وصل لمبتغاه الآن) .. ويهمس في أذنها: (انها الحياة، وليس الموت، التي لاتعرف حدوداً).. ويتوحدان في الحب كما لو كانا شابين.. لا في السبعين!.

ومن غرائب عصاب الحب هذا أنني قرأت خبراً في جريدة (الحياة) عن رجل في التسعين قرر أن يتزوج حبيبته الأولى وهي في التسعين أيضا، بعد أن تزوج قبلها ثلاثا، وتزوجت هي اثنين رحمهما الله!.

ومن غرائبه أن معظمنا يعدّه حباً جميلاً مع انه مرض نفسي. وثمة مؤشر يفيدك في تفحص نفسك، فإن كنت ممن أعاد قراءة (الحب في زمن الكوليرا)، أوغلبتك دموعك مثلي حين شاهدت الفيلم! فأنت بالتأكيد مصاب بهذا العصاب الجميل!.