الفنان عمار داوود: الصوفية العامل المؤثر في وجداني فنياً

1٬048

خضير الزيدي/

لا يمكن لمن يطلع على لوحات الفنان العراقي المغترب عمار داود أن يتجاهل المغزى الروحي والتعبير الصارخ لمسلمات التصوف والروحانيات في تكويناته الفنية وكأنه بذلك يؤسس لمنهج وقواعد صارمة يواشج فيها بين الوجود والعدم، بين الحضور والغياب، بين الجمال والقبح. مع أن الغالب من أعماله الفنية تشير ولا تصرح مثلما يؤكد لنا في متن هذا الحوارات،أنتج هذا الفنان العديد من المعارض خارج بلده العراق وكان آخرها في كاليري كريم في عمان.

مجلة (الشبكة) التقت الزيدي للحديث عن فنه وجماليات لوحاته.

*أود أن ابتدئ الحوار معك عن البداية الأولى التي تأسس عليها أسلوبك ووعيك الفني؟

ـ في الحقيقة ترجع البدايات الأولى إلى مرحلة نفسية حادة تكمن في المراهقة والتي من خلالها انطلقت فكرة الاهتمام بالرسم كمهنة وقدر حياة، فبدأت بواكيرها الأولى من التأثير بمدرسة جماعة بغداد للفن الحديث، خاصة الفنان جواد سليم وما تمخض عنها من حلول شكلية ومازلت أتذكر أنني لم أكن مراهقا عاديا كالآخرين، إنما اقضي اغلب وقتي بالرسم في الدفاتر وهو نوع من التمرين في الخط واللون وبعدها جاءت فترة معهد الفنون الجميلة في السبعينات من القرن المنصرم، حيث بدأت مرحلة جديدة من التأثير في محاضرات استاذنا شاكر حسن ومن هنا جاءت فكرة الاهتمام بالرسم كقضية وجدانية وفكرية معا، فالتعليم الذي قدمه شاكر لي كان ذا ثلاثة أفرع، الشق الأول يتجلى في معلومات عامة عن الفن، أما الشق الثاني فكان من خلال دروس الفلسفة والتصوف، والشق الأخير هو العنصر التربوي والأخلاقي والاجتماعي، كل هذه امتزجت من خلال دروسه القيمة لنا كطلاب، وعليه شكل لي انطلاقة حقيقة جعلتني افهم معنى أن يكون المرء فنانا.

طريق مختلف

* بداية السبعينات كانت مرحلة للوعي السياسي، أود التساؤل عن النشاط الفكري والأسلوبي لجيلك الفني؟

ـ كانت الاهتمامات متباينة أسلوبيا وموقفيا جراء المناخ المختلف سياسيا وفكريا والجميع يعيش مرحلة صراعات سياسية تتجلى في الاتجاه القومي والاشتراكي والديني، إضافة إلى الاتجاه العبثي العدمي الوجودي المتمثل بطروحات سارتر والبير كامي، كل هذه شكلت لي وعيا خاصا لاتخذ طريقا مختلفا الجأ فيه إلى الجوانب الجمالية والصوفية ولأحقق توازنا في إنتاج فني يتوافق بين الفكر الصوفي والوجودي بالرغم من أني سليل عائلة شيوعية لكني خرجت من عباءة الحلاج.

حالة عشق

** ما الذي أغراك في التصوف العربي لتوظفه في أكثر من عمل وأكثر من معرض فني؟

ـ العامل الأكثر تأثيرا في وجداني ومنطقي العقلاني هو مبدأ وحدة الوجود في الصوفية والذي تجلى في شكل واضح في طروحات ابن عربي ورأيت ذلك أكثر غورا في نفسي حينما قرأت عبارته (سبحان من اظهر الأشياء وهو عينها)، فهذه الفكرة كانت ولم تزل تجد لها وقعا كبيرا في النفس، وكما هو معلوم أن الذات الإنسانية في علاقتها بالعالم تنحو منحى جماليا وبحثيا استقرائيا، ونحن هنا إزاء علاقة جمالية وعلاقة معرفية وكلا الجانبين، خصوصا الجانب الجمالي، أدى بي إلى حالة حدسية مفعمة بالإحساس العميق بوجود الذات الإلهية متجلية في جواهر الأشياء، فالوجود الواجب لله يعكس ماهيته بطريقة اقرب من حبل الوريد، وفي حالة أخرى تتصف بالتعالي، فالذات الإنسانية تتراوح ما بين القرب الشديد الذي يؤدي إلى حالة العشق فتصل إلى مرحلة أعلى وهي الوجد، وفي حال آخر تتسم هذه الذات الإنسانية في الإحساس بالهجر، حيث تستشعر هذا البون الشاسع ما بينها وبين الذات الإلهية، فتقع في مقام الحيرة والشوق. كل هذه القيم والآليات التفاعلية ما بين الذات والعالم التي تتجلى بها الذات الإلهية هي التي حفزتني لأمارس الرسم ضمن هذه الروحية. لقد تمت حوصلة هذه المعاني وتركيزها والتأسيس لها في معرضي الشخصي عام 2013 في دبي في كاليري ميم والذي تناولت فيه كتاب الحلاج المعنون بـ(الطواسين) وعليّ أن أؤكد لك هنا، ان ليس من طبعي كرسام أن أوثق أو اصف بشكل تقريري ما اثر على وجداني وعقلي من قيم الصوفية، بل إنني أؤسس عالمي على مفردات ومناخات تومئ ولا تشير، فالصوفي يقول بمبدأ الإشارة وليس بمبدأ العبارة ومن هذه الفكرة انطلقت أعمالي لتؤسس لها كيانا أسلوبيا خاصا بي متضمنا هذا المعنى.

هاجس جمالي

* هذه الأفكار هي من قادتك لصناعة لوحة تحتفي بالعالم… لوحة مليئة بالفرح والبهجة فمن يقف أمام أعمالك يراها متماسكة بخطاب جمالي احتفائي بعيدا عن السوداوية..

ـ غالبا ما تجد في لوحاتي طاقة شعرية غنائية والتي تشيد بجمال العالم من حولي وأنا بطبعي لست ميالاً للتعبير عن المأساة في لوحاتي الفنية والسبب له صلة بالطقس الصوفي والوجداني الداعي لفكرة الإحساس بالجمال حتى فيما يخص رؤاهم حول الموت وعالم الغيب، إذ يؤخذ بطريقة متفائلة جدا وهذا ما انعكس جماليا في الغالب من التكوينات والوحدات الصورية التي عملت عليها منذ التسعينات حتى اللحظة مبتعدا عن لغة التشاؤم، فهناك عبارة معروفة للحلاج يؤكد فيها أن الموت بداية جديدة لحياة أخرى وهو القائل (أن في موتي حياتي ومماتي في حياتي، وحياتي في مماتي) فهذه العبارة الروحية ذات البعد الفلسفي تثير في داخلي هاجسا جماليا يجعلني أتمسك بخطاب وبحث مختلف يؤكد إشاعة فكرة الجمال بيننا والابتعاد عن المأساة والتذكير بها، فالبحث الصوفي علمني أن الكون لا ينطوي على عناصر تفضي إلى الإحساس بالرهاب ولا القلق وهكذا الحال مع الذات الإلهية التي بثت الصوفية معاني عديدة عنها، إذ تشير إلى كونها كمالا مطلقا وعشقا سرمديا لتجعل النفس الإنسانية مطمئنة إلى حد وصولها إلى مقام التسليم والعرفان.

موت الألوان

* أنت ميال لممارسة وبث طاقة التلوين المدهشة والمتناقضة، هل هناك تصور نفسي تبحث عنه عبر اللون في مساحة عملك الفني؟

ـ هذا الأمر ليس قائما بالشكل المطلق، لكن نسبيا أنتج بعض الأعمال التي يكون الخيار اللوني قصديا، فعلى سبيل المثال اغلب أعمالي التي تتميز في أحادية اللون يكون اللون الاسود متسيدا فيها كما في أعمالي الكرافيكية في التسعينات أو طغيان اللون الأبيض مثلما تراه في أعمال متنوعة وكثيرة وهذه الخيارات تابعة للمزاج الوجداني الذي يتماهى مع طبيعة اللون الأسود باعتباره من وجهة نظري الشخصية تعبيرا عن العدم، في حين بدا لنا اللون الأبيض هو التعبير عن الوجود بمعنى الأسود هو موت الألوان بينما الأبيض في الفيزياء هو محصلة جميع تلك الألوان .

أنواع الوهم

* طالما نتحدث عن جوهر الإحساس باللون وطاقته ومخيلتك التي تذهب بك نحو التصوف، أود ان أتساءل عن تأثيرات شاكر حسن ال سعيد وتنظيراته عليك؟

ـ شاكر حسن في رؤاه الفكرية والمعرفية عن الفن مر في مراحل متعددة، يمكن الاستشهاد بأولى تلك المراحل وهي ما تتعلق بفكرة الفن الحيوي التي أسس لها في واحدة من أولى مقالاته التي اعتقد أن عنوانها كان (الفن مادة الحياة)، فهو يشير فيها الى ان الفنان يضع مفردات هذا العالم من جماد وإنسان ونبات وحيوان في صيغة ممكن أن نطلق عليها التجانس الكلي، فلا تعلو مفردة على مفردة أخرى فهو لم يكن ميالا للطبقية والهرمية في التعبير عن مفردات هذا الكون وهذا المفهوم لازمه حتى آخر حياته، واعترف لك هنا أني عشت في هذه التجربة الفكرية العميقة ونشأت منذ شبابي المبكر ضمن هذا الحيز الذي أذهبني إلى حالة روحية لم أزل أتمتع بها إلى يومنا هذا، لكنني في مرحلة أخرى من مراحل شاكر أتعارض معه واختلف ولم التزم بها وهي دخوله معترك اختبار البنية الإبعادية للعمل الفني والتي بين فيها أن أصل السطح التصويري للعمل الفني هو ذو طبيعة ذات بعدين طول وعرض، بينما أقصى البعد الثالث واعتبره نوعا من أنواع الوهم، فهو لا يعدو أن يكون سوى حيلة يعمد إليها الفنان لتحقيق العمق في العمل الفني عن طريق الإيهام بالظلال والضوء والمنظور وهي عناصر وهمية، أصل الخلاف في ذلك يظهر بقرار شاكر حسن المفاهيمي القاضي بحصر السطح التصويري في نطاق التعبير عن بعد واحد وهو أمر اعترف شاكر باستحالته واعترف بعدم إمكانية تحقيق هذا المفهوم فلجأ إلى الإيهام بالبعد الواحد عن طريق التضليل.