حلم مؤيد نعمة

1٬095

بقلم زوجته مها البياتي/

لم يكن مؤيد نعمة فنانا عاديا بأفكاره، بل عبقري في التقاط الحدث وتقديمه بشكل ذكي للقارئ بأسلوب فني متميز صار جزءا من هويته كفنان بخطوطه وأشكاله ودقة التفاصيل التي يتناولها في الرسم وحداثة الفكرة وجرأتها وعمقها وبعدها السياسي والاجتماعي.

كان مبدعا برسم الكاريكاتير ومتميزا برسوم الأطفال ورائدا في الخزف بمنحوتاته التي اثارت جدلاً منذ عام 1973 لروعتها باعتبارها اول تجربة للنحت الفخاري للكاريكاتير في العراق والعالم العربي.. وتعتبر جداريته التي تزين جدران البرلمان العراقي أطول وأكبر جدارية في الشرق الأوسط طولها 120م.
ما تركه مؤيد نعمة من ابداع في عدة مجالات فنية يستوجب التوقف عنده ودراسته من قبل المختصين وهو نداء للجهات الثقافية والفنية المسؤولة ان تعير رموزها الإبداعية اهمية جادة لأنهم رغم رحيلهم يعدون الواجهة الحقيقية لهوية الوطن وتأريخه النضالي ضد كل اشكال الفساد والتخلف، وان ما قدموه في حياتهم من أجل الوطن يستحق من الجميع التوقف عنده وتكريمه بما يليق بعطائهم وتضحياتهم..ومؤيد نعمة نموذج مشرف للفنان الملتزم المناضل الذي كان يحاكي وجع الإنسان العراقي بأسلوب النكتة السوداوية التي ميزته عن العديد من الرسامين في الزمن الصعب.

الحديث عن مؤيد نعمة كفنان سأتركه للمختصين من النقاد..ما يهمني هو الانسان والحبيب الذي عشت معه ثلاثة وثلاثين عاما بحلوها ومرها رغم قربي وإعجابي وإيماني بفنه وابداعاته التي قدمها والتي اصبحت إرثا وطنيا وانسانيا..

انما أتوقف عند ليلة من كانون الاول ٢٠٠٥، شاء القدر ان تكون الأخيرة للحبيب مؤيد نعمة، لم تشبه اية ليلة اخرى. فقد غمره حزن وصمت بعد ان سمع خبر استشهاد ابن جارنا طالب الماجستير وخاله العائد من الأسر في الساعة نفسها من قبل مجهولين.!

دخل مرسمه وجلس على كرسيه أمام رسوماته التي كان ينجزها قبل سماعه الخبر الا انه لم يكن يرسم، بل وضع مجموعة من الصور العائلية أمامه محاولا وضعها في اطارات كان قد هيأها مسبقا.. بقي لدقائق محدقا في صورة جمعتنا كعائلة يوم سفرته الأخيرة الى عمان عام2002 اذ كنا قد تعودنا التقاط صورة الوداع في كل سفرة يقوم بها.

– ما الذي يجعلك تحدق طويلا في هذه الصورة؟

-أحبها.

وفاجأني

– انت ستتعبين وتتبهذلين من بعدي!!

التفت اليه ..وجهه باتجاهي.. لكن.. كانت عيناه في عالم آخر.. تساءلت مع نفسي ما به.. ما الذي يقوله مؤيد ولماذا..لكني بكل كبرياء جاوبته:

-لا تخف علي انا على مايبدو قوية على زماني.. شفت هواية مصايب!

في الصباح نظرت اليه من الشباك وهو في طريقه الى مكان عمله في دار التراث الشعبي..كان متعبا وحزينا لمأساة جارنا الطيب، لكنه قبل ان يخرج قال: سأذهب مع قاسم حمزة الى الفاتحة التي ستقام في بيت الجد بمنطقة المشتل.. اتصلت به لأسأله عن العنوان لأذهب الى الفاتحة، في المرة الاولى اعتذر برسالة لأنه في اجتماع وفي الثانية قال انه في الطريق الى البيت “شوية تعبان.”

كانت الساعة الثانية عشرة ظهرا..وصوت الأذان يملأ السماء حين سمعت طرقات خفيفة على الباب.. فتحته..بادرني مؤيد (اسنديني سأقع)، ضحكت.. توقعت انها طرفة من طرفاته التي يقوم بها معي! لكني ما ان لمحت وجهه حتى وضعت كل ثقله على جسدي وعرجت به الى الداخل، وتمدد على الارض.
صرخت بأعلى صوتي ليسمعني ابني وجاراتي..حتى يستدعوا جارنا الطبيب من المستوصف القريب بسرعة، بعد فحصه قال الضغط صفر..انقلوه للمستشفى..استدعينا دورية للشرطة كانت ترابط قربنا ونقلناه الى مستشفى اليرموك..

في طوارئ اليرموك، قال طبيب شاب “الخطر سيكون 72 ساعة” وطلب مني بعد ساعة من الانتظار ان اعود الى البيت واهيئ له عصير البرتقال وشوربة خفيفة، كنت وابنتانا داليا وشمس بصدمة.. أراد الطبيب ان يعطيني حقنه فاليوم حتى اهدأ.. رفضت.. لأني كنت اريد ان اكون بكامل وعيي!.
أشر مؤيد لي ان اقترب منه وهمس في أذني “ستجدين مبلغا بسيطا في جيب المعطف الرصاصي”. قلت له الاّ يفكر بهذا الموضوع الان.. غادرت المكان وكانت عيناه تراقبان تحركاتي حتى الباب!.

بعد ساعة ونصف عدت ثانية للمستشفى كان مؤيد قد نقل الى غرفة الإنعاش والأخ الفنان عبد الرحيم ياسر كان موجودا..التفتّ فوجدت الأطباء يتسامرون مع كيس من بذور عباد الشمس والقشور تملأ المكان وكانت الترميمات جارية في نفس المكان.. والهرّ الرمادي يجول ويصول براحته في غرفة الإنعاش!! ووجدت مؤيد في عالم آخر.. كان منظرا مؤذيا مزق قلبي وبدأت اتمتم بآيات قرآنية وكل قطعة في ترتجف. طلب مني عبد الرحيم الخروج لأرتاح قليلا..اصرت ابنتي وزوجها على عودتي للبيت لأنه لامكان للجلوس ولاحمامات بسبب الترميمات خاصة واني تعرضت الى تهيج شديد للقولون والألم بدأ يزداد عندي..اخيرا اقتنعت بالعودة الى البيت لأخذ الدواء والرجوع اليهم .. بعد نصف ساعة جاءني ابني حسن يرتجف ووجهه اصفر قائلا..ماما اتصل بي زوج اختي ..يقول اباك مات..اجلب الهوية وشهادة الجنسية العراقية!.

لم اصدق، ولا اريد ان اصدق..لكنها الحقيقة.

بعد اثني عشر عاما على رحيله الأبدي، ما ازال احلم له ولي بأمل جديد لوطن ناضل من اجله بروحه وريشته وتحمل العوز والغربة والعيون اللئيمة التي كانت تراقب تحركاته ورسوماته على الصفحات وتؤول مايحلو لها بغية النيل منه.