مسرح الرشيد: اللغزُ الذي لم تُحل طلاسمُه بعد!

1٬395

محسن ابراهيم /

منعطفاً من جسر السنك وفي منطقة الصالحية على مقربة من فندق المنصور ميليا، وما بين مبنى محافظة بغداد وشبكة الإعلام العراقي, هو الطريق الذي أسلكه يومياً للوصول الى مقر عملي, هي ذات الالتفاته الى اليسار كل يوم لأقرأ تراتيل الحسرات على أطلال مسرح الرشيد.

وبين خطوة وخطوة مسيرة مئة مسرحية وقصة حزينة, هنا بلغ الإبداع سن الحلم وسكت بين أروقته صوت مبحوح. طرقات صامته وخشبة تتشح بالسواد, فنحزم حقائبنا بصمت لنسافر الى عالم الحنين, الى مسرحيات شكسبير ويوسف الصائغ ومحيي الدين زنكنة، وهذيان عدنان الصائغ الذي ظل يقظاً, ومسرحيات (الملك لير) و (تفاحة القلب) و (الجنّة تفتح أبوابها متأخرة) و (روميو وجولييت) و (مخفر الشرطة القديم). فضلاً عن الأمسيات الموسيقية ومعزوفات جايكوفسكي وبتهوفن وباخ, لم تبق من هذا الصرح سوى بقايا مقاعد وخشب مهترئ, وجدران اتشحت بالرماد والدخان وصدى عرض مسرحي يسري بين أروقته, يستغيث شخوص العرض بمن يفك طلّسم هذا المسرح ويعيد له الحياة.

تحفة فنية

في العام 1981 وبتصميم شركة فرنسية ارتفع صرح مبنى مسرح الرشيد بطوابقه التسعة، وكان حينها يعد من أهم وأكبر مسارح بغداد وثاني أكبر تحفة معمارية في الشرق الأوسط. يحتوي مسرح الرشيد على صالة كبيرة تتسع لنحو 700 مشاهد، فضلاً عن قاعات كبيرة للإزياء والإكسسوارات والملابس المخصصة للممثلين ومعدات خاصة بالحيل المسرحية التي تقدم أكثر من مئتين من المؤثرات الصوتية والبصرية. وقد دمرت جميعها بشكل تام بفعل القصف الأميركي وأعمال السلب والنهب. شهد مسرح الرشيد اول عرض مسرحي وهو مسرحية (الأرض والعطش والإنسان) تأليف وإخراج قاسم محمد، وآخر عرض مسرحي كان (وللحب بقية) من تأليف عبدالخالق كريم وإخراج الفنان كاظم النصار. وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاماً استضافت خشبة المسرح العديد من روائع الأدب العراقي والعالمي، فضلاً عن المهرجانات. حيث شهد افتتاح أربع دورات لمهرجان المسرح العربي، فضلاً عن خمس دورات لمهرجان المسرح العراقي.

يعد مسرح الرشيد واحداً من الصروح الثقافية المهمة في بغداد، فقد شهد عشرات العروض المسرحية، سواء المحلية منها التي قدمتها الفرقة القومية للتمثيل العراقية، أو العروض العربية التي قدمت في الثمانينات والتسعينات عبر مهرجانات المسرح العربي، ووقف على خشبته كبار الفنانين العرب من مصر وتونس وسوريا ولبنان والإمارات: أمثال فريد شوقي وحسين فهمي ونور الشريف ومحسنة توفيق، والطيب الصديقي، كما ضيّف المسرح المخرج العربي الكبير يوسف شاهين وعرضت فيه أهم أعماله، مثل فيلم (إسكندرية ليه).

نور الشريف ومسرح الرشيد

في إحدى الزيارات الفنية للوفود العربية المشاركة في مهرجان المسرح العربي في بغداد, كان الفنان المصري نور الشريف ضمن اعضاء الوفد المصري. وحين زيارة الوفد لمسرح الرشيد وقف الجميع وقد أصابهم الذهول حينها انبرى الشريف قائلاً : في ستينات القرن الماضي كانت السينما المصرية توازي السينما الأميركية من حيث الإنتاج والتقنيات، لكن تجدد التقنية لدى الجانب الأميركي جعل لها قدم السبق على السينما المصرية، ولو كنا نمتلك صرحاً فنياً مثل مسرح الرشيد ومايحتويه من استوديوهات متخصصة, أقولها، وبكل ثقة، لتفوقنا على السينما الأميركية بأشواط عدة.

لم يدر في خلد الفنان الراحل نور الشريف والفنانين العرب أن تلك التحفة الفنية ستؤول الى خراب.

المسرح حياة

من لا يحب المسرح لا يحب الحياة، كلمات تحمل بين طياتها الكثير, المسرح والحياة وجهان لعملة واحدة ووحدتهما هي التي تؤدي إلى وجود فن مسرحي ينبض بالحياة، فالأعمال المسرحية تولد من الفكر والعاطفة والواقع. من هذا المنطلق وبالتزامن مع يوم المسرح العالمي قامت مجموعة من الشباب المسرحي بمحاولة تأهيل مسرح الرشيد، ورغم بساطة الإمكانيات وغياب الدعم الحكومي، إلا أنها استطاعت ان تقوم بعملية انعاش لرئة المسرح، فقاموا بتنظيف المسرح وإعادة الخشبة، واستطاعوا ترميم الواجهة، وغلق الفجوات, وإعادة التيار الكهربائي ومنظومة الصوت، ليتبع ذلك تقديم عروض مسرحية قصيرة, وقراءات شعرية, وعزف على العود. شاركتهم في هذا العمل نخبة من الفنانين المسرحيين في مقدمتهم الرائد المسرحي سامي عبد الحميد محلقاً على بساط الذاكرة ليقدم مقاطع لأعمال مسرحية مازالت راسخة في ذاكرة المشاهد منها (الجنة تفتح ابوابها متأخرة) و (الملك لير) و (تفاحة القلب)، وأدى أدوار تلك المقاطع المسرحية كل من الفنانين سهى سالم ومناضل داود ورائد محسن وحكيم جاسم وشذى سالم وآلاء حسين ويحيى إبراهيم، إلا أن كل تلك الجهود تبقى موتورة وبسيطة إن لم يكن هناك دعم حكومي وتخصيص مبالغ مالية من أجل إعادة إعمار مسرح الرشيد بشكل كامل ليعود نابضا بالحياة.