أطفال.. يعملون تحت لهيب شمس حارقة
وليد خالد الزيدي /
تتعمق معاناة الأطفال الناجمة عن استمرار فقدان الرعاية والاهتمام بهم في صور وأشكال من العوز والجوع والمرض, فنراهم في الشوارع والأسواق والأحياء السكنية بحثاً عن رغيف الخبز وهم بعمر الورود, ومن كلا الجنسين.
والمعاناة تختلف فمنهم من يفترش الأرض يبيع السكائر ومن يلفّ الأزقة يبيع الخضر قاطعاً مسافات بعيدة تكويه حرارة الشمس اللاهبة ساعات النهار, وآخر يعرض نفسه لمخاطر الدهس في تقاطعات الشوارع بائعاً لمناديل الورق أو قناني المياه, ومنهم من يتوسل متبضعي الأسواق ليشتروا منه أكياس نايلون تغلف يديه وتلتصق بجلده الرقيق طيلة النهار الأمر الذي جعلهم عرضة للأمراض, لاسيما ضربات الشمس والتيفوئيد وأمراض جلدية في الصيف, ونزلات البرد أيام الشتاء, فضلاً عن سلب حقهم في التربية والتعلم, وأغلبهم أهملوا دراستهم مرغمين.
فقدنا المعيل وتركنا الدراسة
بلغت الساعة الثالثة ظهراً وسط الجو الساخن، غير أن هذا الحال لم يثن إرادة (كرار) وهو في السابعة من عمره ليواصل مكوثه على رصيف احد شوارع بغداد الجديدة يحتضن حافظة كبيرة تحوي مياه شرب ومرطبات. يقول لنا كرار: انتظر شقيقتي سارة لتأتي من تقاطع الشارع القريب لنتناول طعامنا الذي هيأته لنا والدتي منذ الصباح.
وأضاف أن سارة عمرها ثماني سنوات تبيع مياه الشرب أيضا، وقد تركنا الدراسة السنة الماضية بسبب العوز وفقدان المعيل، فوالدي ألمّ به المرض منذ سنين وكان يبيع المواد الغذائية الجاهزة, وأصبح عاجزاً عن توفير لقمة عيشنا ما جعلنا نخرج إلى الشوارع بحثاً عن مصدر رزق بسيط.
البقاء طويلاً في السوق
(حوراء) بعمر(9 سنوات) مدّت يدها وهي تحمل علبة تقول انه “بخور عطره فواح وسعره رخيص”، فسألتها عن مصدره فأجابت (كشمير) كما قال لها صاحب متجر اشترته منه في سوق الشورجة وسط بغداد. تضيف حوراء: “أخرج الى السوق ساعات الصباح الأولى أحمل علب بخور تحوي أعواد تلك المادة العطرة وبسعر500 دينار وهو مبلغ بسيط ,غير أن المباع منه قليل لأن اغلب المشترين يفضلون الشراء من محال الجملة بكميات كبيرة وبأسعار ارخص مما أبيعه أنا, مع ذلك فهناك من يريد علبة أو علبتين يفضل الشراء مني, ما يحفزني على البقاء ساعات النهار ويشجعني على تحمل العطش والجوع, ولأن والدتي تحثني على البقاء طويلاً لبيع اكبر كمية من البخور, وتحاسبني على كلفة الأكل والشرب الذي أتناوله طيلة فترة بقائي في السوق.
التحرش سمة ملازمة
وحينما تكون أطراف المشكلة غير معلنة، فإن آثارها على الأطفال من الإناث أوسع شمولية وأكثر بشاعة, فقد تحولت بعض الفتيات الصغيرات إلى ضحايا للمنحرفين الذين يسعون بمختلف الطرق إلى التحرش الجنسي بهن, تؤكد ذلك بائعة مناديل الورق الشفاف التي رفضت البوح باسمها وأشارت له بـ (س,خ) بعمر(10 سنوات) في أحد شوارع مدينة الحلة, تقول: “دائما ما أتعرض للتحرش من شباب ومراهقين وهناك من يساومني على شرفي, فاضطر لإخبار أفراد دوريات الأمن لأحتمي بهم, ما جعلني أزاول مهمتي قرب نقاط التفتيش خوفاً من أبناء الحرام وحفاظاً على شرفي وسمعة أهلي.
أعمل صباحاً وأدرس ظهراً
حيدر بعمر(9 أعوام) يطل من بدن سيارة لبيع الفواكه ويقول: نجحت إلى الصف الخامس وأنا أعمل صباحاً كعامل في هذا المتجر الجوال في مناطق عدة من أطراف محافظة بغداد, في أحياء الدورة والمدائن والنهروان ومنطقة المعامل شرقي بغداد, وأقوم بعملية الكيل وأتعامل مع المشترين واتسلم مبالغ البيع ثم التحق بالمدرسة ظهراً وأراجع دروسي وأكتب واجباتي مساء ثم أنهض مبكراً للعمل, فأنا أساعد والدي لتوفير لقمة العيش وأعينه على مصاعب الحياة .
خرجت إلى الشارع مرغماً
ينظر (عبد الله) يمين الشارع ويساره باحثا عن سائق يقف بمركبته أمام بسطة صنعها من صناديق البلاستك ووضع عليها قناني زيوت المحركات عسى أن يشتري منه ما يعرضه. يقول عبد الله (10 سنوات) من احد شوارع مدينة بعقوبة: أنا يتيم الأب أعيش في بيت عمي الذي تزوج والدتي بعد وفاة أبي بأشهر وكان عمري سبعة أعوام ومنذ ذلك الحين أرغمني على العمل في الشارع لبيع زيوت المحركات, مضيفاً أنه يبقى ساعات طوال في العمل ما تسبب في تقصيري بدروسي والرسوب لسنتين فتركت الدراسة نهائيا.
الرأي الشرعي
نقلا عن مكتب المرجع الديني الأعلى سماحة السيد علي السيستاني في بغداد فإن من حق كل طفل أن يكون ملماً بالتعليم الأساسي وهو القراءة والكتابة على اقل تقدير, ليخرج كاسباً للرزق, ويتكفل والداه برعايته صحيا ونفسيا, فضلا عن تأمين الطعام والملبس الملائم له, كما يجب أن يكون العمل متناسبا وإمكانياته العقلية وقدراته الجسدية، ليكون بعد ذلك من حق أهله أن يخرجاه للعمل.
للقانون قول فصل
يقول المحامي والخبير القانوني علي حسين الدشتكي إن المادة 95 من قانون العمل رقم 37 لسنة 2015 منعت تشغيل الأطفال دون سن البلوغ (18 سنة) ونصت على:
أولا: يحظر تشغيل الأحداث أو دخولهم موقع العمل أو الأعمال التي قد تضر طبيعتها أو ظروف العمل بها بصحتهم أو سلامتهم أو أخلاقهم.
ثانيا: تقوم الوزارة المعنية بالتشاور مع منظمات العمال أو منظمات أصحاب العمل ذات العلاقة بالمراجعة الدورية كلما دعت الحاجة إلى قائمة الأعمال التي ينطبق عليها حكم البند أولا من هذه المادة وتشمل هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر:
أ / العمل تحت الأرض او تحت سطح الماء أو في المرتفعات الخطرة والأماكن المحصورة.
ب /العمل بآليات ومعدات خطرة التي تتطلب تدخلا يدويا أو نقلا لأحمال ثقيلة.
ج/ العمل في بيئة غير صحية تعرض الأحداث للمخاطر أو تعرضهم لدرجات حرارة غير اعتيادية أو الضجيج أو الاهتزاز الذي يضر بصحتهم.
د/ العمل في ظروف صعبة لساعات طوال في بعض ظروف العمل الليلي.
ثالثا: يحظر تشغيل الأحداث في الأعمال الليلية أو المختلطة.
ويضيف الدشتكي أن عمل أي حدث دون(18 عاما) ذكرا كان أم أنثى يقع المسؤول عنه أو من قام بتشغيله تحت طائلة المادة (9) من قانون الاتجار بالبشر رقم(28) لسنة2012حتى إن كان بموافقة ذويه أو من له ولاية عليه,لأن هذه العملية سوف تبعد جيلا كاملا من ممارسة حياته الطبيعية ودوره في المجتمع من الناحية التعليمية والثقافية ونضوجه الفكري والاجتماعي لكي يستطيع أن يسهم في بناء بلد مزدهر ضمن اختصاصه التعليمي, داعيا إلى تفعيل القوانين العراقية للحد من تلك الظاهرة الخطيرة على المجتمع, لاسيما وان الحدث إذا دخل هذا المعترك منذ نعومة إظفاره يصبح عالة على الأسرة والمجتمع لأنه يفقد الكثير من مقومات العدالة الاجتماعية والتعليم والتثقيف.
ونحن إذ نطرح القضية أمام الرأي العام يحدونا الأمل بأن نسهم في لفت انتباه الجهات ذات العلاقة من أسرة ومجتمع ومؤسسات حكومية وأطراف دينية واجتماعية وقانونية, وحثهم على تفهم الحجم الحقيقي لمعاناة أطفالنا والسعي للتعرف على أسباب تلك الظاهرة ووضع الحلول الناجعة لها والتقليل من آثارها الكارثية على مستقبل الجيل الواعد.