الألغام.. الموت المتبقي من الحروب

يوسف المحسن /

مثل هياكل أسطورية متحفزة.. تظهر بعد سبات صيفي ساعية للانقضاض، أجسام من المعدن الصدِئ، تتغير خارطة انتشارها بحسب المواسم، تغطيها عواصف القيظ الغبارية، وتجرفها سيول الشتاء وأمطاره فتكشر عن أنيابها: هي الألغام والمخلفات الحربية.. المشكلة التي أكملت عقدها الثالث في البادية الجنوبية العراقية، ومناطق أخرى.
الآلاف، وربما الملايين من المقذوفات والألغام والقنابل غير المنفلقة، هي بقايا الحروب التي مرت بالعراق مازالت تشكل تهديداً حقيقياً لحياة الأهالي والمدنيين -بشكل خاص- وتحدياً يواجه عمليات التنمية الاقتصادية في هذه المنطقة، التي تمثل عشرة بالمئة من مساحة العراق.
الثروة الحيوانية وعمليات الاستزراع وأعمال التعدين والمسوحات النفطية، ومثلها المشاريع الاستثمارية، تواجه ذات التحدي، والحال يشير الى انتشار المخلفات الحربية وأكداس عتاد وألغام وقنابل عنقودية تعود إلى حربي الخليج الثانية 1991 وحرب العام 2003.
طوال العقدين الماضيين كشفت البيانات الصحية عن الآلاف من الإصابات والضحايا بفعل التعرض لانفجار هذه الألغام والمخلفات. يقول مدير بيئة المثنى، المهندس يوسف سوادي: إن “أعداد الضحايا تجاوز الثلاثة آلاف وسبعمئة شخص بحلول العام 2014، وهذا الرقم، وما تبع هذا التاريخ من حوادث، مرشح للزيادة بفعل وجود هذه المخلفات في مناطق يقصدها الأهالي في أوقات الربيع لأجل النزهة، أو يمر بها رعاة الأغنام.”
سوادي أضاف: “تعد المثنى من بين أكثر المحافظات العراقية تلوثاً بالقنابل العنقودية، بالرجوع إلى مسوحات دائرة شؤون الألغام والمركز الإقليمي الجنوبي في مدينة البصرة، بالمشاركة مع مديرية بيئة المثنى، إذ عد أكثر من 150 كم2 من الأراضي ملوثاً بالمخلفات الحربية والقنابل العنقودية والألغام، التي حددت أماكنها ضمن شريط حدودي يمتد على 37كم2 والمتبقي هي مناطق ملوثة بالمخلفات الحربية والقنابل العنقودية.”
عن ذات التهديد، يقول الباحث أحمد حمدان الجشعمي، وهو الرئيس السابق للمجلس المحلي في ناحية بصيّه الصحراوية، ويعمل الآن معاوناً لمدير الناحية، إن “أحد أكبر المعوقات التي تواجه الناس في البادية هو وجود المخلفات الحربية التي ألقيت من الطائرات عام ١٩٩١ على امتداد البادية، حيث أصبحت هذه الألغام والقنابل غير المنفلقة أشباحاً تخيم بظلالها على المنطقة.” يضيف الجشعمي: “بين اليوم والآخر يقع عدد من الأشخاص ضحايا لها، ولاسيما في وقت ذروة الربيع حين تختفي هذه المقذوفات تحت أعشاب المرابع، فيما سجلت بادية بصيّة منذ العام ١٩٩١ حتى يومنا هذا سقوط ما يقارب الـ ٤٠٠٠ بين متوفٍّ ومعاق.”
عواصف تخفي وسيول تكشف
الألغام والقنابل العنقودية التي تغيرت ألوانها وأصاب الصدأ أغلفتها الخارجية واختلطت تواريخ صناعتها ومصادرها، فامتزجت برمال الصحراء، تتغير خارطة انتشارها بحسب الفصول والتغيرات المناخية، وعادة ما تنقلها السيول المطرية، لذلك لا يمكن الركون الى الطرق التي سلكت سابقاً أو المناطق التي تم تطهيرها من الألغام على أنها مناطق آمنة، يشير العميد محمد جاسم محمد، مدير الدفاع المدني في المثنى، الى هذه الحقيقة قائلاً: “في حالة وجود أمطار أو سيول، فقد يؤدي ذلك الى جرف المخلفات الحربية ونقلها من أماكن الى أخرى، وهي مخلفات خطرة وشديدة التفجير تعود الى حرب عام1991، لذلك نحث الأهالي -من مرتادي البادية- على أخذ الحيطة وعدم التقرب منها او العبث بها، مع إبلاغ الجهات المسؤولة او الاتصال بالهاتف 115. ”
وهي ذات القصة التي ردَّدها المهندس يوسف سوادي، إذ قال “هنالك ألغام مختفية بفعل العواصف الغبارية، وقد ظهرت للعيان، او غيرت أماكنها بفعل مياه السيول والأمطار التي سقطت.”
مهنة الخطأ الواحد!
إن معالجة القنابل المتروكة والألغام هي مهنة الخطأ الواحد، كما يقول المشتغلون فيها، لذلك فإنها تقتضي الدقة والحذر والخبرة الفنية، إضافة الى أهمية التثقيف الواسع للسكان لتلافي التعرض لخطرها، وفرق معالجة القنابل غير المنفلقة والمخلفات الحربية في مديرية الدفاع المدني تواصل مساعيها لرفع الألغام والمقذوفات الحربية من البادية الجنوبية، الجهود نجحت -في وقت سابق- بإبطال مفعول العشرات من الأطنان، وهو ما أكده المقدم حازم هبّان هذّال، من شعبة المعالجة الذي قال: “بعد أن أعلنا خلو مراكز المدن من المخلفات الحربية، نفذنا عمليات مسح لملايين الأمتار المربعة خلال السنوات الماضية التي عالجنا فيها الآلاف من المقذوفات.” لكنه يستدرك: “الكل يعرف أن في فصل الربيع يقصد رعاةُ الأغنام والمتنزهون البادية، فيحصل احتكاك مع هذه الأجسام المعدنية المتوارية غالباً بفعل التقلبات الجوية، لذا يجب الحذر وعدم الاقتراب منها.”
وتشتمل المخلفات والألغام المتروكة على قذائف طائرات ومدفعية ميدان غير منفلقة، وقنابر حاويات عنقودية ألقيت من الجو، فيما تركزت الجهود الأولى على تأمين مساحات عمل الشركات النفطية، وفي وقت يصف فيه مسؤول شعبة المعالجة النتائج المتحققة بالجيدة على طريق إعلان خلو البادية منها، فإن العميد محمد جاسم أكد رفع أكثر من ثمانية وثلاثين ألف مقذوف مختلفة الأنواع والأحجام من مساحة تجاوزت الأربعة مليارات وخمسمئة مليون متر مربع، مضيفاً أن “فرق المعالجة، حديثة التشكيل في المثنى، أسهمت في تنفيذ أعمال مسح ورفع وإتلاف للمخلفات الحربية كانت ستحتاج إلى ميزانيات كبيرة فيما لو أسندت الى شركات متخصصة.”
وكانت مطالبات صدرت بشمول أعضاء هذه الفرق من المنتسبين والضباط بمخصصات التعرض للعناصر المشعة كجزء من الاعتراف بالدور المهم الذي يقومون به، وكونهم يعملون في واحدة من أخطر المهن، التي تسمى مهنة الخطأ الأول والأخير.
النرويج على خط الألغام
ومع انطلاق عمليات المسح في البادية قبل أعوام بحثاً عن الألغام والمخلفات الحربية، بثت قناة العراقية -شبه الرسمية- شريطاً مصوراً يظهر شباباً متطوعين من ناحية بصية الصحراوية وهم يقومون بجمع وتفجير مخلفات واعتدة حربية عند حدود الناحية، الأمر الذي دفع الجهات المسؤولة -في حينها- الى مناشدة الأهالي بعدم الاقتراب من هذه الأجسام الخطرة وطلب المساعدة من الجهات المسؤولة، حادثة يبدو أنها لفتت الأنظار الى ما يعاني منه السكان المحليون.
يقول أحمد حمدان، وهو ناشط بيئي ايضاً، إن “السنوات الخمس الماضية شهدت انطلاق أعمال منظمة (NPA) النرويجية لإزالة هذه الألغام، عبر تقنيات المسح التقني وتشغيل الأيدي العاملة من أهالي الصحراء، وتفجير آلاف منها بمساعدة من وزارتي الدفاع والداخلية.”
أوتاوا في الأول من آذار
وموعد الأول من آذار / مارس من كل عام هو يوم لاستذكار دخول معاهدة أوتاوا 1999 حيز التنفيذ، واسم المعاهدة هو اختصار لـ (اتفاقية حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد, وتدمير هذه الألغام.) ومنذ سريان مفعول هذه الاتفاقية التحقت مئة وخمس وخمسون دولة وأعلنت التزامها بالاتفاقية، فيما شرعت دول لم تصادق عليها بإجراءات للحد من مخزونها وتدمير المزروع منها تحت الأرض، ونقطة القلق الرئيسة التي التقى عندها المجتمع الدولي هي كون الألغام وسائل قتل وإعاقة مصممة لتزرع تحت الأرض او فوقها وتنفجر حال لمسها من قبل الأفراد او المرور بالقرب منها، وتشير لجنتا الصليب الأحمر والهلال الأحمر الى أن الألغام المضادة للأشخاص أحدثت وباء ترك الآلاف من الضحايا والمصابين والمعاقين الذين استمرت معاناتهم الى ما بعد انتهاء الحروب، وهي لا تميز بين المدنيين والعسكريين وغالباً ما يقع الأطفال ضحية لها.
يقول المقدم حازم هبان هذال، الذي نفذ، رفقة فرق المعالجة، المئات من عمليات رفع ومعالجة الألغام إن “المناطق التي حددت حتى الآن في البادية الجنوبية العراقية كأماكن ملوثة بالألغام والمخلفات الحربية تصل الى مئة وسبعين كيلومتراً مربعاً،” مؤكداً إنَّ “البادية فيها مناطق ملوثة، وأكثرها بالقنابل العنقودية المحرمة دولياً، التي تعود الى حربي العام 1991 والعام 2003 .”
فيما يؤكد المهندس والخبير البيئي يوسف سوادي ما ذهب إليه المقدم حازم هبان، مضيفاً أن “القنابل العنقودية منتشرة في البادية الجنوبية وعلى مناطق واسعة.” عازياً السبب الى أن “الطيارين كانوا يفرغون حمولات طائراتهم في البادية كونها مناطق فارغة، وهو ما أنتج هذا الانتشار الواسع للمخلفات الحربية.”
2029 وستراتيجية لمواجهة الألغام
الستراتيجية الوطنية لمواجهة الألغام والمخلفات الحربية، التي أقرتها الحكومة العراقية، اشترطت تعاون الحكومات المحلية لضمان سرعة الإنجاز وتحقيق أفضل النتائج بإعلان العراق خالياً من المخلفات الحربية، الإعلان كان مخططاً له أن يكون في العام الماضي 2021 وبحسب ما أعلنت عنه دائرة شؤون الألغام والمخلفات الحربية، لكن، وبفعل متطلبات الحرب على الإرهاب وجائحة كورونا، تم تمديده الى العام 2029، وهو ما يعني التمديد لإعلان التطبيق الكامل لاتفاقية أوتاوا، فيما يقول الخبير البيئي يوسف سوادي إن 150كم2 ملوثة بالمخلفات هي مساحة كبيرة تحتاج الى عشرات السنين لتنظيفها وإعلانها خالية، لذلك فهو يجدد مطالبة المنظمات الدولية المعنية بشؤون رفع الألغام، والدول التي شاركت في الحروب، للمساهمة في جهود إغلاق هذا الملف.