الباعة الجوّالون.. عندما تطوف أحلام الفقراء في قناني مياه مبرَّدة

إيفان حكمت – تصوير: صباح الامارة /

في مشهد يختزل انسحاق الإنسان وسط فوضى البحث عن لقمة عيش ولو كانت مرّة، يجلس الفتى أحمد القرفصاء في بيتهم المتهاوي على أطراف العاصمة بغداد، رافعا يده بحركة من يرفع قنينة ماء. هذه الحركة ليست لهواً أو ترفاً، بل هي بحكم العادة، حيث يبيع أحمد وأخوه حميد قناني المياه الباردة في الساحات المكتظة بالسيارات وسط بغداد.

مشهد يذكّر بأحداث فيلم “الأزمنة الحديثة” لتشارلي شابلن، بما يكتنفه من كوميديا سوداء تحول الإنسان الى جزء من الآلة، بحيث تستمر حركته بربط البراغي خارج المصنع دلالة على ترسيخ امتهان الإنسان في اللاوعي لتصبح حياته رهناً بهذا الدور.
أحلام أحمد وأخوه حميد، الذي يصغره بعامين ويشاركه في عمله، لا تتسع إلا لتوفير لقمة العيش لعائلتهما، وتوفير جزء من علاج والدهما الذي أقعده أحد الانفجارات وأصبح عاجزا بسبب عطب أجزاء من ظهره وأطرافه.

بائع الماء لا يرتوي منه

يقول أحمد، ابن الثلاثة عشر ربيعاً، في حديثه لـ”الشبكة”: “ان حملنا لصناديق المياه أنا وشقيقي لساعات طوال يختلف، فأنا أحمل الصندوق على كتفي، فيما يحتضن أخي حميد الصندوق لكونه غير قادر على حمله.”

ويضيف أحمد أن “تكرار الحركة يستمر معنا حتى المنزل، فقد نحتاج بعد رجوعنا الى منزلنا لساعة أحيانا ونحن نقوم بذات الوضعية التي نحمل فيها صناديق المياه المبردة، الى أن نتكيف مع وضعنا في البيت ونمارس حياتنا الطبيعية.”

حميد، شقيق أحمد يقول: “في الصيف نبيع المياه الباردة، أما الشتاء فتتنوع البضائع، كالمظلات أثناء المطر، أو الشاي في الصباح، وكذلك كابلات شحن أجهزة الهواتف النقالة والعاب الأطفال الصغيرة.”

ويضيف حميد، في حديث لـ”الشبكة”: “المياه الباردة والمثلجة نشتريها من أصحاب البرادات في الساحات بالجملة ونحقق بها أرباحا تصل الى 150 في المئة، إلا أن مجموع هذه الارباح التي نحققها في اليوم لا تدخل اللحم الى قدور طعامنا، ولا تكفي لدفع كشفية الطبيب الذي يعالج والدي من آثار الانفجار الذي عصف بجسده.”

ويلفت حميد الى انه “برغم الشمس الحارقة التي تجلد أجسادنا يوميا، إلا أننا لا نشرب من قناني المياه التي نبيعها للآخرين لنحافظ على حجم أرباحنا البسيطة، وبدلا عنها نأتي بقنانٍ نملؤها من مياه الإسالة ونبردها في البيت، ويشاكس حميد أخاه أحمد بالقول: “انه مرة باع واحدة من تلك القناني التي يحضرونها لاستهلاكهم الشخصي لزبون، ولم يصدق ذلك الزبون تبريرات أحمد فضربه وطالبه أن لا ينصب على الناس”، فيما يرد أحمد على مشاكسة أخيه ويروي لنا كيف أن حميد غالبا ما يصيح في نومه ليلا، “بارد ..بارد، ويوقظنا من نومنا فزعين.”

القطط السمان

رامي محمد، الذي أنهى دراسته الإعدادية باختصاص الحاسوب، التحق أيضا منذ عامين بطابور الباعة المتجولين بعد عجزه عن إيجاد عمل بتخصصه. يقول رامي: “ان شهادتي وآية الكرسي يتصدران حائط غرفة المعيشة في بيتنا، حيث تفخر بهما والدتي وتتباهى أمام الضيوف من الأقارب والجيران”، مضيفا في حديثه لـ”الشبكة”: “ان العمل بالاختصاص الذي درسته صار ضربا من الخيال بالنسبة لي بعد ان تآكلت يداي من طرق جميع الأبواب.”
ويلفت رامي الى أن “بيع المياه الباردة هو العمل الوحيد الذي لا يحتاج الى رأس مال، إلا أنه محفوف بالمخاطر، خاصة الشمس القوية التي تطرق بلهيبها على رؤوس الباعة، إضافة الى التنقل بين السيارات التي تسرع بمجرد فتح الطريق للتخلص من الزحام الخانق.”

ويقول رامي إن “الغريب أحيانا هو ملاحقة أجهزة الدولة المعنية لأضعف الحلقات وأبسط الناس بينما يفلت الفاسدون الكبار من العقاب”، موضحا ان” المفارز المختصة اعتقلتني ليومين بسبب بيعي لمياه تبين انها غير مطابقة للمواصفات ومن إنتاج شركة غير مرخصة، وكأن البائع لديه مختبر للمواصفات.”

ويلفت رامي الى أن” الشركة هذه لا تزال تنتج المياه وتصل بضائعها الى الباعة المتجولين والمستهلكين دون أن تحاسب ولم أفهم حتى اللحظة سبب إحتجازي”!

قلب مفتوح ومستقبل مغلق

“حين ولد ابني البكرعلي، ولد معه حلمي بأن يكون له مستقبل باهر، وأثثت الحلم قبل ولادته بأن يكون طبيبا أو مهندسا، ليحقق ما لم أستطع أن أحققه أنا لنفسي، إلا أن صرخاته المبكرة أيقظتني من حلمي ورمت بي في متاهة كابوس يومي، فهذه الصرخات لم تكن طلبا للنوم أو الرضاعة، بل كانت من ألم فتحة في القلب ولدت معه”، هكذا بدأ جاسم حكايته لـ”لشبكة”.

ويضيف ان “علاج علي واصطحابه من طبيب لآخر ومن مستشفى لآخر، دفعني الى بيع كل ما أملك لأرى عليا كبقية الصبية، وعلى الرغم من العمليات المتكررة، بقي الفتى بقلب ضعيف، ما دفعني الى حرمانه من المدرسة خوفا عليه من نزوة تدفعه الى لعب كرة القدم أو ركض في الأروقة تزهق من خلالها روحه العليلة”.

ويلفت جاسم الى ان “بيع المياه الباردة هو سبيلي الوحيد لأطعم عائلتي وأسدد جزءا من نفقات علاج علي الذي بات يرافقني في عملي ليجلس هو الى بسطة الشاي التي تبرع بها أحد أصحاب المحال، فيما أتنقل أنا بين السيارات المارة لأبيع المياه”.

ويضيف ان” الباعة المتجولين وأصحاب البسطات عادة ما يتعرضون للمساءلة والمضايقات من قبل الجهات المعنية، ما يزيد العبء على عاتقنا المثقل أساسا بهموم الحياة والظروف البائسة.”