قرّاء المنابر.. من الاضطهاد الى الشهرة

اياد عطية الخالدي/

بوشاح الحزن والدموع يحيى ملايين الشيعة في العالم الإسلامي وفي العراق خصوصاً ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي وآل بيته (ع) في واقعة الطف قبل أكثر من 1300 سنة هجرية. وعلى مدار هذه الحقبة الزمنية واصلوا إحياء هذه المناسبة مع اختلاف وتنوّع طرق التعبير والطقوس والشعائر باختلاف الأزمنة والظروف السياسية.

وتأتي هذه الذكرى اليوم في وقت يواجه فيه العراقيون قوى الشرّ والتطرف المتمثلة بتنظيم “داعش” الارهابي”. والعلامة الأبرز في الطقوس المرافقة لهذا الحدث هي المنابر والمجالس الحسينية.

الإمام الباقر أول من أحياها

تذكر المصادر التأريخية إن الإمام الباقر (ع) هو أول من أحيا ذكرى استشهاد الحسين (ع) وأقام مجلساً حضره الشعراء الذين عاصروه ومن أشهرهم الشاعر الكميت الأسدي والسيد الحميري حيث ألقوا قصائد مؤثرة عن الامام الحسين (ع) وتضحيته. واستمر إحياء هذه الذكرى التي اقتصرت شعائرها على مشاركة الشعراء إلى عهد الامام الرضا (ع) إذ برز حينها الشاعر دعبل الخزاعي، لكنّ هذه الطقوس خبت في النصف الأول من عمر الدولة العباسية.

الشيخ المفيد أرسى تقاليدها

ويُعدّ الشيخ المفيد، إمام جامع براثا، أول من نصب مجلس عزاء كبيراً ووضع إطاراً جديداً للمنبر الحسيني في القرن الرابع الهجري، كما يؤكد الباحث الاسلامي الدكتور صلاح عبد الرزاق، وتشير مصادر تأريخية إلى أن الشيخ المفيد كان محدّثاً وخطيباً وعالماً بعلوم آل البيت (ع) وحياتهم. بعدها أصبحت الشعائر والطقوس التي أقامها الشيخ المفيد تقليداً استمر إحياؤه إلى هذا اليوم، فاهتمت هذه المجالس والمنابر باستذكار الوقائع التأريخية لواقعة الطف ووصف تفاصيلها.

مدرسة الوائلي

الشيخ أحمد الوائلي الذي بدأ قارئاً في المجالس الحسينية في الخمسينات وبرز في الستينات كأشهر شيوخ المنابر الحسينية، كان أول من تصدّى للخرافات التي دخلت إلى الشعائر الحسينية، وأصبح الوائلي صاحب مدرسة ذائعة الصيت في هذا المجال بحيث غدا له مقلدون، وربما يعود ذلك إلى أنّ الشيخ الوائلي جمع الثقافتين الحوزوية والأدبية، كما إن فكره المنفتح على الآخرين جعله اكثر تميّزاً عن غيره. يقول الباحث الإسلامي الدكتور صلاح عبد الرزاق إن “الشيخ الوائلي أدخل ثقافة وأسلوباً جديدين إلى المنبر الحسينيّ وحوّله إلى وسيلة إصلاح اجتماعي واستخدم الأدلة العلمية، وله الفضل في تشذيب وتنقية المنبر الحسيني من الأفكار الطائفية والخيالية التي طغت على مقاصد وأهداف المنبر؛ كونه وسيلة استذكار وممارسة شعبية واجتماعية تعبّر عن تعلق المسلمين بحب الحسين وآل بيته ما منح المنابر الحسينية طابعاً آخر”.

استغلال المنابر الحسينية

ويوضح عبد الرزاق إن “المنبر الحسينيّ يعدّ أهم وسائل الاتصال بقطاعات واسعة من المجتمع، خصوصاً المجتمع العراقي، ولهذا فإن قوى وأطرافاً عدة استغلت هذا المنبر لتحقيق أهداف سياسية وتوجهات فكرية أساءت إلى هذا المنبر. وعملت بعض هذه القوى على ترسيخ الأفكار السطحية وتعبئة المجتمع المتعلق بحبّ الحسين واحترام المنابر باتجاه أهدافها الضيقة، مع علمها أن هذه التصرفات تسيء إلى الشعائر والطقوس وإلى المنبر الحسيني بصورة خاصة”.

حُرمنا من أداء طقوسنا

ويشرح الشيخ حمد الشيخ موسى (75 عاماً) وهو أحد الروّاد من قارئي المنبر الحسيني في منطقة الكاظمية، جانباً من معاناة شيوخ وقرّاء المنابر أيام النظام السابق، مبيناّ إن “معاناة قرّاء المنبر كانت مريرة في تلك الأيام، إذ منع هذا النظام المواطنين من أداء شعائرهم وطقوسهم الدينية، وكان أزلامه يلاحقوننا، وكثيراً ما استدعيت إلى دائرة أمن الكاظمية ووقعت على تعهد خطيّ بعدم المشاركة بأية طقوس أو مجالس حسينية. واستمرت هذه المضايقات حتى إن العديد منا ألقي في السجن بتهمة ترويج أشرطة تحتفي بالمناسبة، ولم يطلق سراحنا إلا بعد عدة أشهر خضعنا خلالها للفحص لغرض التأكد من أن الأصوات المسجلة على الكاسيتات ليست أصواتنا، الأمر الذي دفع بالعديد من شيوخ المنابر إلى مغادرة العراق خوفاً من بطش النظام، وأملاً بفرصة في مكان آخر تمكّنهم من مواصلة طقوسهم.

ويستدرك الشيخ حمد قائلاً: “اليوم وبحمد الله نستطيع أداء طقوسنا وشعائرنا الحسينية بكلّ حرية، لا نخشى إلا من جرائم الإرهاب التي باتت لا تميّز بين عراقي وعراقي، فهي تستهدف العراقيين حيثما جمعتهم الأعياد والطقوس والشعائر؛ مسلمين كانوا أو مسيحيين.

الملك غازي يحضر الطقوس

ومن ذكرياته عن طقوس أيام زمان يقول الشيخ حمد: “كانت الطقوس في مدينة الكاظمية تجرى حول مرقد الإمام موسى بن جعفر حيث تقام المنابر في الساحات العامة كما تقام (التشابيه) التي تصوّر واقعة الطفّ إذ تُجلب الخيول والسيوف وتصمّم أجواء مشابهة لأجواء المعركة. وأتذكر جيداً أن العديد من المسؤولين في العهود التي سبقت حكم البعثيين كانوا يحضرون هذه الطقوس، وأنا بنفسي شاهدت الملك غازي يحضر أحدها.

مجالس للنساء

إذا كانت الجوامع والحسينيات ومنابرها مكاناً للطقوس والشعائر الحسينية للرجال فإن العديد من بيوت العراقيين تحولت إلى مجالس حسينية للنساء. فعائلة الحاج تحسين الساعدي (54 سنة) من أهالي منطقة الحرية هي واحدة من العائلات التي تقيم هذه المجالس. تقول الحاجة “أم سعيد” زوجة الحاج تحسين: “عائلتنا شأنها شأن الكثير من العائلات العراقية في مجال إحياء هذه الشعائر التي لا تقتصر على الرجال فقط، بل إن النساء أكثر تمسكاً بإحيائها، وبيتنا يتحوّل في مثل هذا الوقت من كلّ عام إلى مجلس تجتمع فيه نساء المحلة، ونقوم بدعوة القارئات والمرددات اللاتي يطلق عليهن (الملايات) لإحياء هذه الشعائر واستذكار قصة استشهاد الحسين وآل بيته (ع) في واقعة الطفّ.

يُذكر أن هذه المجالس كانتْ تقام سراً أيام النظام السابق وتقتصر على عدد من المعارف والأقرباء.

القرّاء

تطور وسائل الاتصالات وانتشار الفضائيات فتح آفاقاً واسعة أمام شيوخ المنابر وقرّاء المجالس الحسينية وشعرائها فقد خصصت بعض الفضائيات ساعات طويلة لبثّ القصائد والشعائر والخطب الحسينية.

يقول صاحب أحد محالّ أقراص الـ”سي دي”: ازدهر سوق الـ”سي دي” ومواقع التواصل، لاسيما اليوتيوب، فضلاً عن “فيس بوك” و”توتير” بأناشيد المنشدين والقرّاء ما سمح ببروز قرّاء وشعراء ومرددين جدد إلى الساحة، بعضهم صغار السن وأشهرهم محمد الصغير الذي لم تتجاوز سنه الثانية عشرة، كما إن الحرية التي ينعم بها العراقيون ساهمت في اتساع وتنوّع المجالس وتزايد العروض أمام شيوخ المنابر الذين لم يتردد بعضهم في رفع أجوره بحجم يوازي شهرته وتأثيره، ويقف المردّد “باسم الكربلائي” في طليعة القرّاء والمرددين وتصل أسعار قراءته ومجالسه إلى مبالغ كبيرة.