محلة الهيتاويين.. رمز المحبة والتعايش السلمي

خضير الزيدي /

مثل كل المحلات الحالية المتبقية، تتميز الهيتاويين بجانبها التراثي من حيث الطراز البنائي القديم، فالبيوت العالقة بالقدم تعلوها الشناشيل القديمة، ما إن تمر بين بيوتها حتى تشم روائح التاريخ من طبيعة بناء البيت والأزقة الضيقة والمحلات المتلاصق بعضها مع بعض.
حافظت هذه المحلة على طابع تراثي التصق بها من حيث الملاءمة في أشكال البيوت وحجم مساحتها وطبيعة البناء الداخلي (لما يسمى يومها بالحوش)، وكل ذلك جعلها تمتاز بنمط من هوية معينة ملتزمة بمحددات التراث واستعراض الأبواب الخشبية والشناشيل العالية التي لا تفصلها عن بيوتات أخرى إلا طريقة تكوين كل بيت بما يناسبه من التصميم الخارجي.
وفد سكان محلة الهيتاويين إلى مدينة الحلة قبل 175 عاماً تقريباً، وقد كانت مدينة هيت تشتهر بإنتاج وتصدير مواد البناء مثل الجص والنورة والقار(القير) وغيرها، وكانت هناك تجارة رائجة بين مدينتي الحلة وهيت، إذ يتم تصدير هذه المواد عبر نهر الفرات بواسطة السفن –آنذاك- من خلال الخط النهري التجاري الذي أنشأته الحكومة العثمانية، الذي يبدأ من أعالي الفرات نحو مدينة الحلة، ثم إلى جنوب العراق.
لقد أعجب تجار هيت بمدينة الحلة وجمالها وطيب مناخها وكذلك حسن تعامل أهلها وصدقهم، لذا قرر كثير منهم الاستيطان والسكن فيها بعد أن قاموا بجلب عائلاتهم واتخاذها مكاناً لهم ملاصقاً لمحلة الأكراد في الجانب الكبير من المدينة حيث أقاموا فيه وأسسوا محله سميت باسمهم فيما بعد (محلة الهيتاويين).
ثقافة التسامح
ظلت هذه المحلة تمثل رمزاً للتعايش السلمي بين أبناء الحلة، فقد فرضت براءة أهلها وحسن نواياهم، العيش والبقاء بسلام وطمأنينة، ومرد ذلك عائد إلى حسن الجوار والتمسك بالتقاليد العربية التي أحياها أهل الأنبار القادمون من هيت وعانة وحديثة وراوة يوم استوطنوا مدينة الحلة، حيث كانوا يمارسون تجارة القير.
ولا تخفى على من درس هذه المحلة معرفة ما يجاورها من محلات، إذ تحيط بالهيتاويين أكثر من محلة: كالمهدية والأكراد، وهاتان المحلتان اكتسبتا تاريخاً وتراثاً حيين جراء الألفة ونشر ثقافة المحبة والتسامح.
الأواصر الاجتماعية
يشير الأستاذ حسام الشلاه، والدكتور سعد الحداد، وهما من أعلام الحلة الدارسين لثقافة التراث الحلي، إلى أن طبيعة الحياة اليومية لأهالي تلك المحلات اتسمت بالبساطة والتسامح، فعاشوا في مجتمع منسجم في السلوك والممارسات الاجتماعية، وهذا ما جعلهم يتصفون بالتآزر والمودة والأواصر الأسرية، وبرز منهم أناس مارسوا السياسة والطب والأدب، وقد عرف الإبداع العراقي واحداً منهم هو حامد الهيتي كواحد من أولئك المبدعين الذين أسهموا في كتابة القصة والمسرح ونشر الثقافة الرصينة.
مدينة مبهجة
والواقع أنه لا تخلو بقعة من مدن العراق إلا وآثار التاريخ قابعة فيها، فما إن تولي وجهك نحو مدنه حتى تندهش من مراقد الأولياء والمتصوفة ورجال العلم، وكأن هذا البلد كتب عليه أن يحتضن في أرضه أعلاماً يخلدهم التاريخ وتذكرهم كتب السيرة، وكما كتب علينا أن نتعرف على أعلام العراق، كتب كذلك على محلاته التراثية التاريخية أن تبقى شاخصة أمام السائحين، فمدينة مثل الحلة بعثت في من يراها البهجة والدهشة، إذ شهدت بناء محلات وأزقة كانت الأكثر غوراً في التاريخ منذ أن تأسست سنة 495هـ / 1101م على يد الأمير صدقة بن منصور الأزدي، الملقب بسيف الدولة، نعم، منذ ذلك التاريخ ومدينة الحلة تحمل عبق التاريخ والتراث المحلي، فما إن تدخل أزقتها القديمة حتى تتناهى إليك بيوتاتها التراثية بشناشيلها الجميلة وشبابيكها الخشبية، وما إن تطرق باب أحدهم حتى يحدثك عن تاريخ محلته وطيبة أهلها، فهذه الحلة، المدينة الغافية على شطها القادم من نهر الفرات، المار بأهالي الانبار، الحامل لسمات طيبتهم، يحمل أبهى بهجة من الناس القادمين إلى الحلة، ألا وهم الهيتاويون الذين أخذتهم طبيعة تجارتهم لتجرفهم بين أهالي الوسط عالقين بجذور التراث تبتهج بهم الأمكنة ليشكلوا بعد ذلك محلة تعرف بالهيتاويين.
تاريخ المحلة
يتطرق الباحث المختص بالتراث وبمحلات مدينة الحلة الأستاذ محمد عبد الجليل شعابث، إلى أصل التسمية وتاريخ النشأة بأن هذا الوقت كان قبل (١٧٥) سنة، بعدها قامت الحكومة العثمانية ببناء جامع لهم سمي باسمهم (جامع الهيتاويين)، الذي أنشئ من قبل الحاكم العثماني محمد باشا بابان، ويعود تاريخ بناء الجامع إلى عام 1813 للميلاد، وقد جدده ووسعه -فيما بعد- المرحوم الحاج علي كاظم البياع.
ومن الطرائف التي يحتفظ بها الأهالي عن هذه المحلة أنه عندما ازدادت الهجرة من مدينة هيت إلى الحلة جاء أعيان مدينة هيت ليعرفوا سبب ترك هؤلاء مدينتهم والسكن في الحلة، وبعد لقائهم أجابوهم وبلهجتهم الهيتاوية الجميلة (لقد بدلنا القير بالقيمر)، وهذا يدل على نقاء وصفاء وطيبة أهل الحلة، مدينة التعايش السلمي بين المذاهب والأديان، والأمر إذا انطبق على هذه المحلة التراثية فقد يكون بسبب الجانب الإنساني والحميمية بين أبناء المحلات المجاورة لها، مثلما نشهد جوانب إنسانية أخرى في عكد الأكراد، والوردية، والتعيس. نقل لي أحد المعمرين -من أبناء هذه المحلة- أنه سمع من أجداده أن أهالي مدينة الحلة تعاملوا معهم وكأنهم أصل هذه المدينة، بل فضلوهم على أنفسهم، وأنهم تلقوا منهم ترحيباً واحتراماً لم يشعروا به حتى في مدينتهم الأصلية.
اندمج الهيتاويون وانصهروا مع مجتمع الحلة، وكانت -وما زالت- تربط بينهم علاقات الصداقة والمصاهرة والجيرة الحسنة. هذه هي مدينة الحلة، وها هم أهلها بكل مكوناتهم رموزاً للوطنية والإثار يضرب ويحتذى بهم بين جميع محافظات عراقنا الحبيب.