هل المطالبة بـ“حرية التعبير”ترف أم ضرورة؟

عواد ناصر/

عانى العراقيون من أكثر الأنظمة السياسية بطشاً، وتحديداً، منذ ذلك العام الذي سطا فيه صدام حسين على رئاسة الدولة، 1979، وعاث فساداً وقمعاً وتنكيلاً بهم. لهذا يجدر بالعراقيين وهم يستحقون، استغلال ما حدث بعد عام 2003 والنظر إلى أنفسهم في مرآة صقيلة ومحايدة ليروا وجه بلدهم الكئيب بعين ثاقبة، والتوجه نحو تفحص حاضرهم المتوتر، من دون التنكر لتجارب الماضي المريرة وبلا تفاؤل مفرط بشأن مستقبلهم: الأمر يتوقف عليهم أولاً وأخيراً.

تقييد علني للحريات

حرية التعبير في العراق اليوم في وضع شائك وملتبس كجزء من فوضى سياسية واجتماعية وثقافية تضرب بجذورها إلى عقود طويلة من القمع السياسي المفرط، المباشر وغير المباشر، حتى أن قانون حرية التعبير الذي حاولت كتل برلمانية تمريره، بعد تعديلات لم تناقش، بشكل قانوني/ تقليدي، إذ أضيفت تعديلات تناقض ما جاء، أصلاً، في نص القانون التشريعي، وصارت التهمة جاهزة مع عقوبات صارمة بشأن جرائم غير محددة بالضبط، ويمكن إدانة أي شخص/مجموعة في ضوئها، بشأن المقدس وغير المقدس، وبإمكان القارئ العودة إلى هذا القانون بتعديلاته المفترضة، ولكن يبدو أن بعض عقلاء البرلمانيين نجحوا في تأجيل التصويت عليه، وهذا علامة مشجعة على أن القانون، بصيغته المعدلة، مثار أخذ ورد، بل أن النخبة المدنية العراقية رفضته جملة وتفصيلاً لما اعتبرته مساساً مباشراً بحرية التعبير وحق الإنسان في إبداء رأيه. خاصة وأن فقرات القانون الأخير، المعدل، تنطوي على إجحاف واضح وتقييد علني لهذه الحرية.

حرية التعبير .. فصل دام

بعد تعاقب السنين والتجارب دأبت شعوب العالم على الاستفادة من تجاربها وتاريخها المعفّر بالدم والظلم والإحساس الحاد بالعدالة، وراجعت الكثير من قوانينها، بما فيها تلك التي أُقرت في ظروف وشروط ومختلفة.

وفي مجريات الكفاح من أجل الحرية، صارت «حرية التعبير» فصلاً دامياً في رواية الإنسان المجروح في حنجرته ولسانه المرتبطين بقلبه وعقله، وأصبحت قوانين الدول كالتاريخ: يكتبها الأقوياء.

لكن السجال لم يزل مستمراً، ليس في العراق فقط، بل في جميع أنحاء العالم، لكن ثمة فرقاً جوهرياً: في دول العالم الديمقراطية ثمة سجال هادئ ينزع نحو تطوير هذه القوانين بما يتيح حرية التعبير في أفضل حالاتها، لأنهم لا يخافون الرأي الضد طالما هو «سلطة شعبية» تجنح نحو السلام الاجتماعي وبناء الإنسان الحر والحق وصولاً إلى مجتمع متوازن ومكفول قانونياً ومعنوياً.

ماقالته العجوز البريطانية

القصة القديمة، المعروفة، التي انتشرت أواخر التسعينات حول تلك العجوز البريطانية التي ردت على المواطن العراقي الذي شكا بطش صدام حسين بقولها: لماذا انتخبتموه؟ ذات دلالة على ما سبق.

الأمر يتعلق بتربيتها الذاتية، برغم أنها عجوز، لأنها لم تشهد «عصابچياً» استولى على السلطة عن طريق التآمر ليحول دولة حمورابي إلى دولة صدام حسين، ولأنها تعرف أن حرية التعبير، كقانون، انبثقت من دولتها وهي طفلة.

هذه العجوز هي جدّة جيل بريطاني تستفتيه البلدية المحلية بشأن إزالة شجرة في شارعها الفرعي.

البحث في حرية التعبير يكشف عن مراحل تطورية مر بها العالم لتتراكم الخبرة والمعرفة وصولاً إلى ما هي عليه اليوم عندما تكشف السلطات السويدية عن حالة فساد لم يبلّغ بها رئيس الوزراء السويدي برغم أن الحكومة هناك تتشكل من اليسار والاشتراكيين الديمقراطيين التي توشك على السقوط بسبب حالة الفساد هذه.

الباكستان مثال آخر

ولن نذهب بعيداً، فقد استقال رئيس وزراء باكستان نواز شريف، وهو بلد لا يختلف كثيراً عن العراق، بعد إدانته بجرائم فساد.
هل المطالبة بـ «حرية التعبير» في العراق ترف أم ضرورة؟؟

إن استشراء حالة الفساد في البلد، منذ تشكيل «مجلس الحكم» على يد سلطات الاحتلال، حتى اليوم، لم يعد من الممكن السكوت عليه، وهي حالات مفضوحة وليست اتهامات كشفها مسؤولون واعترف بها نواب ونشرت عنها صحف ومواقع عراقية رسمية وشبه رسمية.
«حرية التعبير» في العراق ليست أزمة سياسية فوقية تخص العلاقات القانونية بين وسائل الإعلام والثقافة والمنابر وحوارات الزعامة والأحزاب والكتل، بل هي أزمة عائلية قدر ما يتعلق الأمر بـ «حرية التعبير» داخل البيت الذي يسلط الطفل على أخته الكبرى كـ «محرم» وقد يقتلها غسلاً للعار عندما ينفذ القانون مراهق، أو تنفذه قوانين العشيرة وسط غياب تام للقانون الرسمي.

حق المواطن أولاً

لا يمكن تعديل قانون «حرية التعبير» كممارسة حضارية/قانونية من دون حق المواطن في حريته المكفولة، دستورياً برفض الفساد والمحاصصة والسطو على ممتلكات الدولة والمواطنين وتزوير الانتخابات ومحاسبة المسؤولين عن تسليم الموصل، وأخواتها، لداعش وتفعيل هيئة النزاهة باعتماد النزيهين، وهذا كله يبدو ضرورة قصوى لتصبح حرية التعبير أولى الخطوات نحو التغيير.

تقوم الحياة البشرية على التفاهم بين البشر، ولا تفاهم بلا «تعبير» عن الذات، أو الجماعة، بلا لغة واستخدام اللسان، أداة لهذا التعبير حتى تعددت وسائل التعبير، لاحقاً، منذ رسم العلامات على جدران الكهوف حتى عالم اليوم.

حرية التعبير حق الجميع على الجميع كي يتفاهم الجميع مع الجميع.

تاريخ الفكرة

بدأت الفكرة في البرلمان البريطاني منذ القرن السابع عشر. الثورة الفرنسية عززت، لاحقاً، مبادئ حرية التعبير، عام 1789.

جون ستيوارت ميل (1873-1806) قال بشكل واضح: «إذا كان كل البشر يمتلكون رأياً واحداً وهناك شخص واحد فقط يملك رأياً مخالفاً فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيامه بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة».

اليوم، تغيرت النظرة لمفهوم «حرية التعبير» بفضل وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، وصار الناس جيراناً ملتصقين ببعضهم، وقلوبهم تنبض معاً وعقولهم تتشارك في البحث عن سلام العالم عبر الحوار الذي عماده حرية التعبير. العراق، لا يختلف عن بقية بلدان الشرق الأوسط، وبعض بلدان العالم الثالث، الذي يقول دستوره بحرية التعبير وضمانها، لكنه لا يعمل بها، وما التعديل الأخير إلا التفاف على هذا القانون الدستوري، بما يكلف المواطن العراقي تجريماً صريحاً بسبب تهم مطاطية وغير واضحة ولا تمثل بديلاً قانونياً عن قوانين صدام حسين الذي ناضل العراقيون من أجل إسقاطه لينعموا بـ “حرية التعبير”.