عبد الله الميالي /
كتاب (دراسة الفن والموضوع في شعر عروة بن الورد وفكرته في إعادته توزيع الثروة) للناقد مؤيد عليوي، صدر في عام 2019 ضمن منشورات دار المتن في بغداد، ويقع في 108 صفحات، ليسلط الضوء على شخصية الشاعر والفارس عروة بن الورد، الذي يُلقب بعروة الصعاليك، من خلال تحليل شعره الذي يُبين من خلاله مذهبه وفلسفته في الحياة.
هذه الفلسفة تتمظهر من خلال قيامه بالغزو والإغارة لغرض السلب والنهب، لا على طريقة القبائل العربية في عصر ما قبل الإسلام، أو طريقة غيره من مشاهير الصعاليك كالشنفرى، وإنما من أجل غاية إنسانية وهي توزيع تلك الغنائم على الفقراء والمحرومين، لذلك وجدنا من خلال هذه الدراسة أن عروة الصعاليك يقوم بغزو الأشخاص الأغنياء فقط ليقوم بدوره في توزيع الغنائم وهي غالباً (الإبل) على أصحابه الفقراء الذين تجمعوا حوله ليكون لهم هو المنقذ من بؤس الفقر المدقع.
كانت حركة عروة الصعاليك، كما استنتجنا من الدراسة، هي وسيلة (وإن كانت عنيفة) لغاية إنسانية معينة ملخصها: رفع الظلم عن الفقراء والمحرومين والمظلومين والمستضعفين، وحمايتهم من سيطرة الأسياد والزعماء، وإيجاد حياة اجتماعية كريمة تليق بهم من خلال توزيع الثروة المنهوبة من الأغنياء وتوزيعها عليهم بالتساوي. وبناءً على ذلك وجدت حركة عروة الصعاليك صدى كبيراً في نفوس تلك الطبقة المحرومة، فكانوا يستصرخونه إذا اشتد عليهم الفقر: (يا أبا الصعاليك، أغثنا) فيخرج ليغزو بهم.
مجتمع القبائل العربية
وقد رأينا من خلال البحث أن عروة بن الورد العبسي، قد تخلص من فكرة (العصبية القبلية) السائدة في مجتمع القبائل العربية، وشقّ لنفسه طريقاً في الحياة لا يقيّده بقبيلته الأم (عَبْس) لكي يتحرر من أعرافها وتقاليدها، وليعمل بكل حرية في حركته ومذهبه الاجتماعي، وفي الوقت نفسه لم يقطع صِلاته عن قبيلته نهائياً، بل كان متوازناً بين هذه وتلك.
كما رأينا أن عروة الصعاليك قد بثّ فلسفته هذه من خلال شعره الذي قام الباحث بتحليله فنياً في معظم صفحات الدراسة، ومنه هذا المقطع من قصيدة له:
لحى الله صُعلوكاً إذا جنّ ليلهُ مُصافِي المُشَاشِ، آلِفاً كُلّ مَجزرِ
ينامُ عِشـاءً ثُمّ يُصبِحُ ناعِســاً تحُثّ الحَصَى عن جنبِهِ المتعفِّـرِ
قلِـيلُ التمـاسِ الـزادِ إلا لِنفسِهِ إِذا هو أَمسَى كالعريشِ المُجَوّرِ
ولكِنّ صُعلوكاً، صفيحةُ وجهِهِ كضـوءِ شِهـابِ القابِـسِ المُتَنَوِّرِ
ويبدو من هذا المقطع الشعري وغيره من المقاطع الأخرى في الدراسة، أن شعر عروة الصعاليك يتميّز بالبساطة والوضوح إذا ما قُورن بشعر غيره من شعراء عصر ما قبل الإسلام، الذين كانت المفردات الغريبة والوحشية هي الغالبة في نصوصهم الشعرية، ولعل السبب في ذلك ارتباط واقتراب حركته الاجتماعية من طبقة البسطاء ليكون كأحدهم في البساطة أيضاً.
تناغم الإيقاع
ويرى الباحث أن الشاعر استعمل ألفاظاً وتراكيب لغوية في غاية الفنية، وفي فنه هذا بدا التناغم بين الإيقاع الخارجي والقافية والإيقاع الداخلي من جهة، والموضوع من جهة ثانية، في تصويره لأغلب مشاعره وأفكاره صوراً فنية وشعرية، وجاءت جمالية التعبير ضمن سياقها في المعنى المراد، ما أعطى لفكرة ابن الورد وفلسفته في الحياة بعداً جديداً لم يألفه مجتمع ما قبل الإسلام القائم على الغزو والنهب والسلب والتعصب القبلي.
ورأينا من خلال البحث كيف أن عروة بن الورد قد صاغ جوهر حركته، ورسم معالمها من خلال شعره بصدق وشفافية، كاشفاً صفاته الحميدة والإنسانية النابعة من فكرة المساواة بين الأغنياء والفقراء، كما جاء في هذه الأبيات التي يرد فيها على قيس بن زهير زعيم قبيلة (بني عَبس):
إنـي امـرؤٌ عـافى إنـائي شِركةٌ وأنتَ امـرؤٌ عـافى إنـاءك واحـدُ
أتهزأُ مني أن سمنتَ وأن ترى بوجهي مسّ الحقِ، والحقُ جاهدُ
أقسّمُ جسمـي فـي جسـومٍ كثيرة وأحسـو قراح المـاءِ والماءُ باردُ
ورأينا أن الباحث لشدّة إعجابه بحركة ومذهب عروة بن الورد في توزيع الثروة بين الناس بالتساوي، ربط بينه وبين شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي نادى هو الآخر بإنصاف الفقراء وضرورة إعطائهم الأموال التي تجعلهم يعيشون حياة كريمة، فكان نتيجة هذه الدعوة النفي إلى الربذة من قبل السلطة الحاكمة وقتئذ. (ينظر ص8 ، ص20 من الدراسة) ، لكن الفرق بين دعوة ابن الورد ودعوة الغفاري، أن الأول لجأ إلى العنف كوسيلة لهدفه، بينما الثاني كان سلمياً إلى أبعد الحدود.
حركة عروة بن الورد شكّلت منعطفاً نوعياً في مجتمع الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، تذكرنا بما فعله (صعصعة بن ناجية) جد الشاعر الفرزدق، الذي كان ينقذ البنات من الوأد على غير عادة بعض القبائل العربية وقتئذ من خلال دفع فدية لأهل البنت، وهي من دون شك مبادرة إنسانية عظيمة جداً.
ورؤيتي للدراسة أن الباحث أراد من خلالها إثارة الوعي مجدداً لفكرة محاربة الطبقية والتفاوت في توزيع الثروات بصورة خاطئة، هذا التفاوت الذي ينتج معه وجود طبقة كبيرة من الفقراء والمحرومين وجيش من المتسوّلين يفترشون الطرقات على مدى البصر في المدن، ما يدل على سوء التخطيط والإدارة، سواء بقصد أو من دونه من قبل الذين بيدهم السلطة والقرار.