حوار/ علي السومري
كاتب ومترجم، حاصل على شهادة البكالوريوس في الترجمة من جامعة الموصل، إضافة إلى دراسته الترجمة الفورية والمنظورة والتحريرية، من الإنكليزية إلى العربية وبالعكس، وعلم اللغة العام، واللغتين العربية والفرنسية، وعلم الصوت، والأدب الإنكليزي.
مارس التدريس في العراق وأستراليا، عضو في مجموعة (أوبرن) للشعراء والكتّاب حتى سنة 2010، شارك في العديد من المهرجانات والندوات الثقافية داخل العراق وخارجه.
ترجم لدار (نابو) عدداً من الكتب، من بينها سيرة ليوناردو دافنشي لـ (والتر آيزاكسون)، ومسرحية (بير گونت) لـ (هنريك إبسن)، وسيرة (مايكل أنجلو – حياة ملحمية) لـ (مارتن غايفورد)، كما أنه ينشر في الصحف العراقية والعربية والأجنبية.
إنه المترجم محسن بني سعيد، الذي كان لنا معه هذا الحوار، الذي ابتدأناه بسؤال:
* يقال إن للمترجم أكثر من نافذة يطل منها على ثقافات مختلفة، ما الذي منحته لك هذه النوافذ؟
– حين أدخل مكتبة، لا أشعر بالغربة أمام القسم الإنكليزي منها، فهذه نافذة على الحرية. وحين أقرأ بعضاً من الأخبار العالمية اليومية، أراها في اليوم التالي في الصحافة العربية، وتلك نافذة على زمن متقدم. بعد فرويد ويونغ – مثلاً – ظهر العشرات من المختصّين في علم النفس بكل مجالاته، لم يُترجموا بعد، بوسعي أن أقرأ كتبهم ساعة صدروها، وهذه نافذة على الفكر الطازج. وحين أترجم، أدخل مع كل كتاب في مزاج مختلف، ومشاعر مختلفة، ولغة مختلفة، وأفكار مختلفة، وهذه نافذة على دهشة، لا ينال منها الضجر. وأحياناً، أحلم باللغة الإنكليزية، وهذه نافذة على الحلم.
متعة الترجمة
* كيف تختار ما تترجمه من الكتب؟
– بطبيعة الحال، اختيار الكتب ليس قراراً فردياً، بل عملية جمعية، يشترك فيها عدة أشخاص، كل حسب مجال اهتمامه، فصناعة الكتاب عملية جمعية. حين بدأت أقرأ، عرفت أن كل كتاب سوف يدلّني على كتاب آخر. الأفكار، وبالتالي الكتب، لها نسب عائلي. ولعل من المناسب القول إن ما أذكره هنا هو نتاج لتجربتي الشخصية. حين ترجمت مسرحية (بير گونت) للكاتب النرويجي (هنريك إبسن) [صدرت عن منشورات نابو، 2022]، أصبحت ترجمة مسرحية (براند) تحصيل حاصل. وسيرة دافنشي قادتني إلى سيرة مايكل أنجلو. إجمالاً، أقرأ، إلى أن تعترض طريقي جملة جديدة. الجمل الجديدة – والأفكار الجديدة – هي المحفّز الأول لاختيار كتاب للترجمة.
* هل يمكننا القول إن المترجم يترجم ما كان يتمنى تأليفه من الكتب؟
– ليس بالضرورة، أصبحت ترجمة نص أكثر متعة – بالنسبة لي – من القراءة! قلتُ دائماً إن الترجمة أنقذتني من الكتابة. يحدث أن تترجم فكرة، وتود لو أن الكاتب أضاف جملة أخرى، أو قالها بطريقة أخرى. في سيرة دافنشي، على سبيل المثال، ربما قال (وولتر آيزاكسون) كل ما يريد القارئ معرفته عن ابتسامة الموناليزا، لكنه أحجم عن القول إن «ليوناردو دافنشي صنع ابتسامة الموناليزا في المشرحة!» أطرح هذا لأن آيزاكسون يُثبت ذلك في سيرة دافنشي، لكن دون أن يصرّح به.
خيانة النصّ
* سؤال تقليدي لابد منه، هل حقاً ما يشاع بأن الترجمة خيانة للنص الأصلي؟
– يقول بلزاك: ما لم يكن هناك حب، فليست هناك خيانة. فالترجمة غير معنية بخيانة من لا يحبها.
لو أن هناك خيانة فليس من الترجمة، بل من اللغة. (أتحدث هنا عن اللغة الشخصية). يقول لنا فقه اللغة إن الهدف من النحو هو مساعدتنا في صياغة عدد غير محدود من الجمل – المقبولة اجتماعياً – بعدد محدود من الكلمات. المحدودية من اللغة، تظهر لحظة الترجمة، أي في لحظة استخدامها، والمترجم هنا يتعامل مع لغتين، ونظامي نحو.
هناك طرح شائع بأن الترجمة حرفة، ويمكنني أن أرى نجاراً يترجم شجرة إلى نافذة أو كرسي، وربما منحوتة فنية تستحق العرض في متحف، والنجار السيئ يسيل دمه على أخشابه، فيترك أثراً يتحسّسه المقتني. المترجم جار المؤلف، تعتمد علاقتهما على فهم ما يقولانه بعض لبعض.
انتهاك المعنى
* قرأت واطلعت على بعض ما ترجم إلى العربية من الكتب، وقطعاً أنك قرأت الكتب التي أحببتها باللغة العربية، بلغتها الأم (الإنكليزية)، هل وجدت اختلافاً بين النصّين؟
– لو جلس مترجمان أحدهما إلى جانب الآخر، وترجما نصاً واحداً، سيكون لدينا نصان مختلفان، ولا بأس بهذا، لكن من غير المسموح به أن يكون لدينا معنيان مختلفان. حاولت أن أقرأ ماركيز باللغة الإنكليزية، فلم استسغه، لأن صالح علماني اختطف ذائقتي. وقارنت، لغرض التعلم، بين نص أصل وآخر مترجَم، لم يكن الأمر ممتعاً. ثمة عمل أوربي من أربعين ألف كلمة، لكنه ترشّق على يد مترجم أميركي إلى أربعة عشر ألف كلمة فقط، أيّاً كان السبب، فهو غير مقبول. لدي مثلاً ترجمات إنكليزية عدة لمسرحية (بير گونت)، بعضها قد يكون الجار السابع، وليس الجار الملاصق لإبسن، وبعضها انتهك المعنى من أجل الشكل. قلتُ في مكان آخر، إن بعض الحالات تستحق دراسة مقارنة.
لنتخيَّل ساعي بريد مختلف قليلاً، فضولي ومتطفّل، يتسلم الرسالة، فينطلق في رحلته نحو المُرسل إليه، لكنه في الطريق يفتح الرسالة ويقرأها، فتضيف إليه، ولا يضيف إليها، فيتعرَّف على كاتب الحروف، وتتبدى أمامه مشاعره، وانفعالاته، وأفكاره. لا يغيّر ساعي البريد هذا شيئاً مما تقصده الرسالة، لأنها ليست رسالته، ثم يسلّمها، فتخرج من يده.
صوتان من جمجمة واحدة
* هناك مقولة تقول ما معناه أن الكتاب المترجم دائماً ما يتضمن روح مترجمهِ لا كاتبهِ، ماذا تقول؟
– أتبنّى موقف المترجم اللامرئي، حتى أنني أتفادى كتابة مقدمات لما ترجمتُ من كتب، إلا عند الضرورة القصوى، مثلاً لتوثيق تفاصيل عن الكتاب أو الترجمة، يرجع هذا ببساطة إلى رغبتي في عدم الوقوف بين المؤلف والقارئ. حين تقرأ ترجماتي، سترى أن كلاً من (هنريك إبسن، ودانيال كِيز، ووولتر آيزاكسون، ومارتن غايفورد، وكنعان مكية، وجورج أورويل) يتحدث إليك بلغة عربية سلسة، تختلف مع اختلاف المؤلف. المعنى، وحتى انفعالات المؤلف، كلية الحضور، لكن بكلماتي، أو هذا ما أسعى إليه على الأقل.
(جمال علي الحلاق) وأنا، اشتركنا في منافسة شعرية، على نحو مرتجل. حين جاء دورنا لكي نلقي قصيدة باللغتين العربية والإنكليزية، وفي طريقنا إلى المنصة، قرّرنا أن يواجه أحدنا الجمهور، ويقف الآخر خلفه، وحين ينطلق الصوت العربي، يتبعه الصوت الإنكليزي من خلف جمجمة الآخر، صوتان من جمجمة واحدة. فكنتُ الصوت غير المرئي، لصوت مرئي.
غياب التسويق
*وصل كتابك المترجم (سيرة حياة دافنشي) للكاتب (والتر آيزكسون)، الصادر عن دار (نابو) إلى القائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد للكتاب، برأيك، ما الذي تمنحه مثل هذه المشاركات للكاتب والمترجم؟
– الكتاب، أي كتاب، في أحد أوجهه، سلعة، تُباع وتُشترى، وتخضع لقوانين السوق. والتسويق جزء جوهري من نجاح أي منتج. وفي الحقيقة، كم من كتاب عظيم لم يأخذ حقه في الانتشار والمبيعات بسبب غياب التسويق. الجوائز إحدى أفضل طرق التسويق للكتب.
* ما جديد محسن بن سعيد؟
– انتهيت من ترجمة كتاب (جمهورية الخوف) للدكتور كنعان مكية، والكتاب الآن في مرحلة التدقيق الأخيرة، وسيصدر عن دار الجمل. وهذا كتاب أعدتُ ترجمته برغبة شخصية من المؤلف. وترجمت (مزرعة الحيوانات) لجورج أورويل و(أسفار مع أبيقور) وسيصدر الكتابان عن منشورات نابو.
ويجري الآن تدقيق ترجمتي للسيرة (مملكة إبسن – الرجل وأعماله) التي وضعها بروفسور المسرح (أفَرت سبرينكورن) سنة 2020.