عادل مكي /
بقي أصل الغجر وبداياتهم لغزين عصيين لحقبة طويلة من الزمن، بحيث اختلطت الحقائق بالأساطير، حتى أن بعضهم قال إن الغجر هم من سلالة (قابين) الذي كان التيه جزءاً من عقابه على قتله لأخيه، بحسب سفر التكوين في التوراة.
يضاف الى ذلك رأي آخر يقول إن ربطهم بالشرق العربي هو محض أسطورة، إذ يؤكد الرحالة الإنكليزي (جورج هنري) أن اصلهم يرجع الى شمال الهند، ففي اوائل القرن الثاني عشر للميلاد هاجر الكثير منهم الى أوروبا، حتى وصلوا الى المجر وسويسرا وإيطاليا وفرنسا، وقسم منهم من ادعى أنهم من مسيحيي مصر الذين فروا من المسلمين.
للغجر أسماء عديدة حسب المناطق التي يقيمون فيها، ففي سوريا ومصر يسمون بـ (النور) بفتح النون والواو، أو الغجر، وفي إيطاليا (زنجاني)، وفي صعيد مصر (الحلب)، وفي العراق (الكاولية).
ومع كثرة ترحال الغجر من منطقة الى أخرى فانهم لا يتمسكون بأي شيء إلا الموسيقى، فالآلات الموسيقية هي المصاحبة الدائمية لهم، إذ لا يستغنون عنها، فهي امتداد ومترجم حقيقي لكل عذاباتهم وأحزانهم التي يلاقونها عند ترحالهم القسري أو الاختياري المستمر.
الموسيقي بالنسبة للغجر شيء مقدس، فهم يحفظون موسيقي وموروث كل منطقة يسكنون فيها، وهذا ما جعلهم بلا موسيقى خاصة بهم، اذ ليست للغجر لغة موسيقية مشتركة، لذلك هم يحفظون أغاني وموسيقي وموروث كل منطقة تؤويهم، إذ أنهم يتمتعون بتلك الصفة الغريبة والعجيبة في التكيف مع المكان.
وقد اشتهر الغجر بإقامة الحفلات الموسيقية في قصور الملوك، وأكثر آلة اشتهروا بها هي (الكيتار) و(الكمان) وكذلك آلات النفخ الهوائية مع الإيقاعات المختلفة، بحيث يختلط الغناء بالرقص الذي يعتمد أساساً على جميلاتهم من النساء. وكانت مهمة العائلة الغجرية تهيئة نسائها الجميلات للرقص والغناء واعتبار ذلك كنزاً يجب الحفاظ عليه من خلال رب الأسرة في أن تكون في أفضل حال، ولاسيما بعد تنافس شباب الغجر على الزواج بعد ذلك من تلك الفتيات لكونهن ثروة تدر عليهم المال من خلال إقامة الحفلات الغنائية الراقصة.
أما في العراق فيشكل الغجر (الكاولية) أقلية عرقية تتراوح أعدادهم مابين 50 ا الى 200 ألف، يسكنون في قرى وتجمعات تكون في الغالب منعزلة بأطراف المدن ومناطق مختلفة ومتنوعة، ولاسيما بعد أن منحتهم الدولة العراقية السابقة الجنسية العراقية في أوائل الثمانينيات، حين كان لهم دور كبير في حلقة مهمة من تاريخ العراق من خلال حفلات الطرب والغناء، إذ كانت الدولة تحميهم حماية مباشرة، فهي ميالة للمحافظة عليهم لحاجتها إليهم في إقامة حفلات المجون والرقص والطرب، وفي غالبية بيوتات المسؤولين ووزراء النظام السابق، فعلي حسن المجيد ووطبان ابراهيم وصباح مرزا وقصي وعدي وعدنان خيرالله، لم تخلُ ليالي أنسهم إلا وكانت للكاولية (الغجر) المساحة الأكبر فيها، لذا فقد تمتع الغجر بالحماية الكاملة من الدولة العراقية آنذاك.
واجه الغجر بعد عام 2003 عزلة اجتماعية في غالب مناطق العراق، بسبب النظرة التقليدية للغجر من قبل المجتمع، الأمر الذي جعلهم يعانون من الفقر والفاقة وعدم توفر فرص العمل، لذا أصبح التسول هو المهنة الحالية لأكثرهم.
وبالرجوع الى أساس موضوعنا، فقد استطاع الفن الغجري أن يكسب اهتمام الكثير بحيث تمكن من الدخول عبر بوابة الإذاعة والتلفزيون العراقيين، بعد أن كان محصوراً في حفلات الأعراس والختان التي تقام في الهواء الطلق، إذ انعكس هذا الأمر بطريقة إيجابية على تطور مستوى أدائهم من أجل الحفاظ على هذه الميزة الفنية، لذلك فقد حفظ الغجر كل ألوان الغناء الريفي والبدوي العراقي عن ظهر قلب مثل (النايل والعتابا والسويحلي والميجنا)، ورقصوا على ايقاع الهجع والهيوه، وغنوا بطلاقة كل أطوار الغناء الريفي العراقي.
امتازت الأصوات النسائية الغجرية بطلاقة الصوت والاقتدار العالي في القرار والجواب بمسحة غجرية خاصة، مثل حمدية صالح وفرقتها، وبنات الريف أمثال سورية حسين وصبيحة ذياب وغزلان ومنى العبد لله وساجدة عبيد وغيرهن .. وفي فترة التسعينيات دخل الغناء الريفي الى المسرح العراقي، وشارك الكثير من الغجريات في العروض الراقصة والغناء المنفرد، إذ أن ما يميز هذا الغناء هو فطرته العجيبة في أداء كل الألوان الغنائية الريفية وبجدارة عالية، فلابد، ومن باب الإنصاف، أن نذكر أن الغناء الغجري كان ومازال جزءاً مهماً من تاريخ الغناء العراقي، إذ أن أغنياته رفدت هذا الفن بأعذب الأصوات الشجية المقتدرة، شئنا أم أبينا، مع اعتبار أنهم اضافة نوعية مهمة في ذاكرة العراقيين الذين رسخت في بالهم عشرات الأصوات الغجرية الجميلة التي قدمت ومازالت عطاءً فنياً ثراً لا يمكن لتاريخ الموسيقى تجاوزه.