الفنان التشكيلي منير العبيدي..رومانسية الحلم خلف لوحات تحاكي الواقع

 خضير الزيدي/

بين بساتين بهرز الخلابة وعلى ضفاف نهر ديالى، وُلِد الفنان العراقي منير العبيدي عام 1949. وتركت تلك الأرض المعطاء أثراً نفسياً في أعماله، فانشدّ لجمال المكان وأخذته الذاكرة ليتعمق بعيداً في تلك البقعة، ما جعله فناناً يميل للواقعية ويحرص على إحياء هذا الفن، فانعكست في تقنياته اللونية وأسلوبه الفني لينتج لنا العشرات من الأعمال الجميلة التي تتغنى باليوميات المفرحة والمبهجة. هذا الحوار يأخذنا لمعرفة رؤيته وماتحمله ذاكرته الفنية من كلام مباح.

أحلم أيضاً

*أود الحديث بداية عن سر اهتمامك بالمدرسة الواقعية دون غيرها من المدارس الفنية؟

– لا يقتصر الأمر على هذه المدرسة فقط، فأنا مهتم بالمدارس الفنية غير الواقعية أيضا، فقد رسمت لوحات رمزية مثل لوحات “كابوس كل ليلة” و “الأرض اليباب” و “ليلة اغتيال القمر” و غيرها، كما رسمت سلسلة من الأعمال التي تدخل ضمن اتجاهِ ما يسمى بالتجريدية الهندسية (geometric abstract) وعموم اشتغالاتي الفنية التي تصنف واقعية تتضمن اتجاهاً رومانسياً، أي واقعاً نحلم به و ليس بالضرورة واقعاً نراه.

*لكن معظم مواضيعك مستلّة من الواقع؟

ــآخذ مواضيعي من الواقع، ولكني أعكسها على سطح اللوحة تأويلياً، وهذا يتضمن في كل الأحوال شيئاً من التغريب، لكني لا أفرط في هذا التغريب. حتى في الحالة التي رسمت بها سلسلة “المدينة الحلم”، حسبما اعتبرته المدرسة التجريدية الهندسية، يجد الملاحظ بأنني قمت برسم الأشياء بزوايا حادة وخطوط متوازية مائلة، عمودية أو أفقية في علاقات محسوبة بدقّة، ولكنها في كل الأحوال مستلة من الواقع، إذ يجد المشاهد فيها دوراً وأنهاراً وأشجاراً وأطفالاً يلعبون. أما البعد الآخر، وكما يدل الاسم “المدينة الحلم” فإن فيها ميلاً لتجسيد مدينة يسودها الوئام والتصالح والجمال.

سينمائية اللون

* تهتم بالألوان البراقة، هل هو حب الطبيعة، أم أنه اهتمام مبني على مؤثرات الألوان سيميائياً؟

– الكثير ممن شاهدوا لوحاتي قالوا إنها تنقل لهم شعوراً بالفرح والارتياح. أما ما أطلقت عليه سيميائية اللون فهي تكون على نوعين: سيميائية عفوية، بمعنى أن عملية اختيار اللون تتم تلقائياً كلحن خفيف ينساب بهدوء حين يكون المرء ذا طابع انبساطي. لكنها قد تكون على العكس من ذلك، ألواناً كئيبة، ثقيلة ومحبطة حتى مع بقاء بناء اللوحة جيداً وربما رفيعاً كما في مثال بيكاسو في المرحلة الزرقاء. اللون يجب أن يكون على أقصى ما يكون من التأثير وأن يلعب دوره في اللوحة.

المكان

*ولدت في بهرز التي تركت أثراً فاعلاً في نفسك، هل ما زال الحنين يغمرك بالعودة لجذورك؟

– تتميز بهرز بنوع من الاقتصاد، وبالتالي وفّرت مستوى حياةٍ مرضياً للغالبية العظمى من سكانها دون الاضطرار للكدح المضني. وفر هذا جواً من الهدوء والصلح الاجتماعي كما وقدراً كبيراً من الجمال. نمَت في بهرز جميع أنواع الفاكهة عدا الاستوائية، وكانت مناطق البساتين تبدو من بعيد كغابة من النخيل المحتشد السامق. هذا الأساس وفّر الجو للثقافة التأملية فنشأ هنا شعراء وكتاب ورسامون، لا يمكن تجاهل المكان. هناك من يظن نفسه يفعل ويجعل نفسه يحلق في كتاباته مثلاً الى عالم المناجاة المفرطة في الذاتية والمونولوج، وهناك من يرسم أعمالاً تجريدية. ولكن في كل الأحوال المكان موجود ويفصح عن نفسه فيما بين السطور.

فائق حسن وخالد الجادر

*لماذا لم يكن لفائق حسن نفس تأثير خالد الجادر المباشر عليك طالما أنت تميل للفن الواقعي الذي عرف به فائق؟

– خالد الجادر كان أستاذي، أما فائق حسن فلا تربطني به معرفة شخصية. شاهدت الكثير من أعماله المهمة. كانت ،فعلاً، أعمالاً رائعة، وإذا ما كنت قد استفدت كثيرا من خالد الجادر فقد حرصت أن اشق طريقي الفني بنفسي وان أؤسس لأسلوبي الخاص كما كان يوصي هو دائماً، لذا لن تجد أثراً مباشراً لأسلوب خالد الجادر في أعمالي. ولكن تأثيره علي كان بالغاً و حاسماً بمعني آخر. خالد الجادر فنان ومربٍ كبير، كانت ثقافته واسعة وقدرته على تحليل العمل الفني فائقة وكان كثيرَ العطاء لا يبخل بشيء، يقدم نصائح فاعلة للدارسين لديه ويستطيع بسرعة كبيرة أن يشخص الخلل في بيّنة العمل الفني وهو الذي علمني كيف أبني اللوحة وحدثني عن التوازنات الكتلوية، وخالد الجادر علمٌ من أعلام الثقافة العراقية وظاهرة يصعب تكرارها.

مقارنة

*كيف تنظر للفن الواقعي العراقي مقارنة مع الفن الغربي، أقصد من حيث الصياغات والبناء الفني والتقنية؟

– الفترة التي استطيع أن أتحدث عنها هي الفترة التي سبقت مغادرتي العراق عام 2000. كان فائق حسن ،وبلا منازع، أشهر رسام واقعي عراقي وكان ذا تقنيات مذهلة. هذا إذا أخذنا أعماله الجادة. فلدى كل فنان مشهور أعمال عابرة. وبسبب سطوة أسلوبه وطول فترة تدريسه لمادة الرسم فقد نشأ جيل واسع من الرسامين المقلدين له ممن، كما يقال، خرجوا من تحت معطفه. بعضهم بقي على واقعيته ولكنه خرج عن أسلوب فائق حسن بقدر ما وأسس لملامح خاصة، ولكن هذا البعض قليل، وبذا فإن اتجاهاً واقعياً قائماً بذاته غير موجود عملياً.

*ما الذي تبقّى من جيلك الفني، وكيف تنظر الى أهميته، وأتساءل هنا عن الفنانين الذين تراهن على منجزهم الجمالي؟

– الجيل بالنسبة لي ليس إطاراً متعلقاً بالعمر بل تجربة تشكيلية وفكرية متجايلة قد تضم الشاب والكهل. كنت نشيطاً في الساحة الفنية العراقية أكثر ما يكون في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي قبل أن أغادر العراق مكرهاً عام 2000 .التقينا أيضا مع مجموعات من المثقفين العراقيين من كتّاب وشعراء ومسرحيين حيناً في اتحاد الأدباء وأحياناً في ملتقيات ثقافية.. كانت العلاقات بيننا مثمرة، تشحذ الفكر وتقود إلى المزيد من النشاط كنوع من الاستجابة الخلاقة. وحين انتشر هؤلاء الفنانون على مشارق الأرض ومغاربها حملوا معهم بذور تطورهم اللاحق، وباطلاعهم على منجزات الفن التشكيلي العالمي قُيض للكثير منهم ،كما وللجيل الذي أعقبهم، تحقيق منجزات فنية جديرة بالتقدير والثناء.

الماركسية

*هل ما زلت وفياً لخطاب الماركسية ونظرته للفن والحياة؟

– في نهاية الألفية الثانية أجري استفتاء ثقافي في أوروبا، من هو المفكر الأكثر تأثيراً في الألفية الماضية، فحصل ماركس على الموقع الأول. السياسة هي أكبر إساءة لماركس المفكر، والقسم الأعظم من الناشطين السياسيين ممن يعتبرون أنفسهم ماركسيين في العراق هم في الحقيقة ستالينيون، كما أشرت في مقالاتي التي تناولت قضايا تجديد اليسار. جوهر فكر ماركس كان إنسانياً ولكنه لم يكن عاطفياً، انحاز الى الفقراء بسبب موقف أخلاقي وإنما قام على تحليل علاقات الانتاج الرأسمالي في عصره فوجد أنها سوف تدخل في تناقض بسبب توزيع الثروة وتراكمهما لدى عدد محدود من الناس مقابل بقاء الغالبية العظمى قادرة بالكاد على تلبية احتياجاتهم المعيشية.