عادل مكي/
سطع محسن فرحان كنجم براق شاب بـ (حرفنة) الكبار حين نجح في ان يقدم لنا، وعبر تاريخه الطويل، كنوزا لحنية تحتاج منا سنوات طوال كي نغوص في أغوراها المتشعبة، ونحلل ونرصد اماكن الجمال والدهشة، فقد كان بنكهة مغايرة تحمل بصمة الكبار والمبدعين.
جاء فرحان بنمط غير سائد وغير شائع عبر ترانيم تحمل في جنباتها رسائل مشفره لحقب وسنوات مختلفة، كان فيها رساماً ماهراً يرسم لنا بريشته ألحاناً خلابة وساحرة لم تألفها الأسماع من قبل، فتعلقت به الأفئدة والجوانح. مثلت ألحانه إرهاصات، او قداسات كنائسية، مفعمة برائحة الأرض، مستمدة غبطتها من جنون الإبداع، فكل حرف او جملة موسيقية صاغتها أنامله نستشعرها وكأنها ترجمة حقيقية لكل مآسينا وخسائرنا المتلاحقة عبر الحقب الزمنية، في ألحان تطريبية مغمسة بحزن دفين يحاكي أوتار القلوب. وبحرفنة الكبار استطاع ان يحافظ على روح النغم العراقي الأصيل، فقد كانت خطواته تعج بالإبداع.
موسيقى مدروسة
وبالحسابات الفنية، فإن محسن فرحان يعد ظاهرة فنية كبيرة أنجبتها ارادة السماء، والا كيف تفسر تلك العبقرية الفذة في تركيب وتصنيع جمل لحنية تجعلنا نتساءل حين تطرق أسماعنا من أين اتى بهذا السحر وهذا البذخ اللحني لكي يعلق في رقاب الزمن قلائد لحنية في غاية الجمال؟
تلك المخيلة اللحنية التي يمتلكها جاءت بعد مخاض عسير صقلته البيئة المحيطة به، والموهبة المتفردة، والإصرار حد الإعياء، فكل ما قدمه كان بعيداً عن الاقتباس او التطعيم او النقل، لأن موهبته ساعدته على التجديد بأسلوب السهل الممتنع غير المعقد، ما أسهم في اثراء الذائقة السمعية من خلال ما قدمه من ألحان كبيرة، مثل: (غريبة الروح) لحسين نعمة في عام 1972، ثم تلاها بـ (كوم انثر الهيل) و(مابيّ اعوفن هلي) لنفس المطرب، و(عيني عيني) و(لتصدك اليحجون) و(البارحة) لسعدون جابر، و(شكول عليك) و(لوغيمت دنياي) و(يكولون غني بفرح) لقحطان العطار، وأغنية (ياهوى الهاب) لحميد منصور، و(طير الحمام) لرضا الخياط.
كبير وسط الكبار
لقد وظف محسن فرحان ألحانه بفكر مبتكر جديد غير مقيد بالأساليب اللحنية السائدة آنذاك، مبتعدا عن النمطية، مستخدما جملا موسيقية بسيطة غير مبهمة، ذات ايقاعات مختلفة ومتنوعة بصياغة لحنية متكاملة الأطراف. لقد استطاع هذا الفتى الكربلائي ان يشق طريقة وسط جموع الكبار، حين كانت الساحة اللحنية تعج بطالب القره غولي وناظم نعيم ومحمد جواد أموري وكوكب حمزة وآخرين، فبسط نفوذه بينهم بكل ثبات واقتدار، فصار اسما مميزا يشار اليه بالبنان.
ولد محسن فرحان في مدينة واسط، ثم انتقل الى مدينة الدم والشهادة، كربلاء المقدسة، حيث ترعرع هذا الفتى الأسمر في أزقتها، فسارت خطواته فيها متشبعاً روحياً بأصوات المنابر والمواكب الحسينية، الأمر الذي انعكس فيما بعد في ألحانه وموسيقاه المشبعة بالألم والفقد والاغتراب. كما أنه عاش في كنف الأجواء الثقافية لتلك المدينة الموغلة بالتاريخ والثقافة والأدب والشعر، ومن خلال أسرته التي كانت تهوى فنون الأدب والفصاحة، لذا تسلح بحس فني أصبح خزيناً معرفياً له ساعده في تكوين شخصيته العصامية الباحثة عن التجديد والتطوير.
درس اللغة الإنكليزية واختص فيها، بدأ وعيه الأول وميوله للأنغام منذ الصغر، فدرس الموسيقى وانخرط في صفوف فرق الإنشاد المحلية، إلا أنه لم يجد نفسه فيها، بل إن طموحة كان أكبر فحرص وتعلم العزف على آلتي العود والأكورديون، ثم راجع كل كتب الموسيقى حتى اتقن فن كتابة النوتة الموسيقية، معتمداً على فطنته وذكائه الشديدين، فدخل معهد الفنون الجميلة لتبدأ مرحلة أخرى، فقد كان مميزاً بشهادة أساتذة كبار، مثل روحي الخماش وسلمان شكر، وهام في حلبة التلحين غارقاً فيها حد الإعياء والجنون.
عمل في النشاط المدرسي صاقلاً موهبته من خلال وضع الألحان لعشرات الأوبريتات الغنائية، حتى جاءت اللحظة الحاسمة والمفصلية في حياته حينما قدم رائعته (كوم انثر الهيل) بصوت الفنان حسين نعمة الشجي، ثم توالت الأعمال الكبيرة والناجحة مع ثلة كبيرة من المطربين.
سافر الى القاهرة عام 1976 ليلتحق بمعهد الموسيقي العربية قسم الدراسات الحرة، ليثري خزينه المتقد بالخبرة، والاقتراب من عمالقة اللحن العربي، أمثال بليغ حمدي وآخرين، ثم أسس لمدرسة موسيقية خاصة به ستنهل منها الأجيال الشيء الكثير.
ألحان خالدة
أسهم محسن فرحان في تأسيس جمعية الملحنين والمؤلفين العراقيين، وصار رئيساً لها، بعدها أصبح مستشارا في وزارة الثقافة. كما كانت له مشاركات ومساهمات فنية كثيرة ومتعددة تصب كلها في صالح الأغنية العراقية التي كان حريصاً على ان تظل ملتزمة تسهم في إغناء المجتمع بالجمال والعذوبة والرقة والإتقان.
ستبقى ألحان محسن فرحان خالدة أبد الدهر، وتظل أغانيه محلقة في سماء الإبداع، لأنها كانت أغاني رصينة مهذبة ستنهل منها الأجيال القادمة الشيء الكثير، ولاسيما في البناء اللحني الملتزم، الذي كان وسيظل علامة فارقة في تاريخ وتطور الأغنية العراقية، التي كان فرحان أحد فرسانها الأفذاذ. ستبقى ألحانه وأغانيه خالدة لأن الإبداع الحقيقي لا يمكن للزمن -مهما طال- أن يتناساه او يغادره، ولاسيما اذا كانت جذوره مغروسة في أعماق النفس البشرية التواقة للجمال والإبداع.