عشرون عاماً على رحيله رياض أحمد سنديانة الغناء العراقي التي تهاوت

كاظم غيلان/

هل كان عبد الرضا مزهر نجم السباهي، حين ولد على أرض التنومة بالبصرة في العام 1951 يعلم بأنه يتمتع بأعذب وأقوى صوت في الغناء العراقي؟ هل عرف بان جسده، حين يرحل في السابع من آذار 1997 سيترك هذا الصوت، بقوته وشجنه وعذوبته، ليراهن على سر ديمومته ويتسبب بخذلان مقلديه؟.
كبر الفتى البصري وابتهجت به عائلته ووالده الفلاح، صاحب الملامح الصارمة، الذي غادر الحياة قبيل أربعينية – رضا – كما كان يناديه، وبدأت الموهبة تنمو معه في مدينة يشق جسدها شط العرب فتمنحه دفعاتها بأتجاه أن يكون مغنياً، وأبتدأ مشواره متأثراُ بما نهله من موروث الجنوب العراقي الزاخر بالغناء، فراح يؤدي أغنيات بسيطة وقتذآك في حفلات الأقرباء والجيران والأصدقاء.
اللمسات الأولى طزجت بمثابرة الشاب المتطلع الطموح فراح يقلد صوت داخل حسن الذي قال عنه ذات مرة: أنني عاشق متطرف لصوت داخل حسن! ولربما هو أفضل من قلده.. لكن كم خسر الذين حاولوا تقليده لاسيما بعد رحيله بإستثناء ولده الأصغر ـ وسيم – الذي غادر الحياة هو الآخر في خضم أحداث 2003 متأثراً بمرض السحايا، ولربما كان شفيعه بتلك الجينات الوراثية التي أعانته على الأقتراب النسبي من صوت والده.
مستاحش في طريق وعر
مثلما نضجت موهبته راحت معاناته هي الأخرى تنضج أشد، فقد أتعبته المؤسسة الفنية وناصبته العداء والحقد – دار الإذاعة – في قبوله كمطرب بحكم ميوله السياسية، إذ كان محسوباً على صف الشيوعيين العراقيين وله محبة واهتمام في وسط الشعراء الشيوعيين، الا أن أصراره حال دون انكساره وتراجعه وكان للفنان الراحل احمد الخليل دور مهم في مساعدته في لجنة القبول وقد منحه أسمه الفني الذي لازمه حتى رحيله – رياض أحمد – فسارع لتسجيل اغنية (مستاحش) التي كتب كلماتها مهدي عبود السوداني، وراحت ذائقته تزداد تفتحاً وخصوبة فأردفها بأغنية (سورة) التي كتبها الشاعر عريان السيد خلف ووضع الحانها الفنان كوكب حمزة الذي رافقه وأحبه كثيراً، وكان رياض شديد التعلق به، ولأشهر قبيل رحيله كان يجهش بالبكاء حين يتذكره ولم يتردد في أن يسميه عزيزي وأستاذي.
أستثمر رياض انتقاله من البصرة ليستقر في بغداد ولينهل من ثقافة فنية انسانية تقدمية وراح يرعى موهبته بكل مايحتاجها من ضرورات الوعي والمثابرة، ويفرض حضوره الفني الفاعل بين مجايليه عبر العديد من الأغنيات التي شاعت وراهنت على ديمومتها لأيامنا هذه، تلك الأغنيات التي أتسمت بطابعها المديني برغم أمتدادات وموروثات الريف التي بقيت ترافق حلاوة صوته وشجنه، فقد كان ملماً، الى حد ما، بكل مقامات وأبعاد الغناء العراقي، وشهدت حياته نجاحات عالية، إذ نافس كل مجايليه وتفوق عليهم ليخطف المرتبة الأولى في أبرز مسابقة غنائية أجرتها نقابة الفنانين العراقيين العام 1986 بأغنيته -آن الأوان- التي كتب كلماتها الراحل نزار جواد ولحنها جعفر الخفاف الذي يحسب له الفضل الكبير على مجمل منجز رياض الغنائي، فلا يمكن الحديث عنه من دون الإشارة الى ماقدمه له الخفاف الذي رافقه في أبرز محطاته الغنائية الناضجة حتى أقفلها بـأغنية – مرة ومرة – وكم من مقلد لها وقع في فخها؟
الغناء ينتكس
ما أن أستحدث نجل الطاغية المقبور –عدي- قناة العهر التي أطلق عليها –الشباب- بوصفه –زينهم-!! حتى فتحت الأبواب على مصاريعها لأستقبال أفواج من الطارئين والطارئات في مجمل الفنون، وفي مقدمتها الغناء، فأصبحت مصدر ازعاج للذائقة الرصينة ومصدر أهانة لكل الناس واستخفاف يصل حد الأستهتار بكل القيم الإجتماعية للعراقيين. وبدأت نقمة رياض أحمد تستعر في داخله لتتحول الى قهر لن يفارقه، وما من جلسة – خاصة طبعاً – إلا وحدثني بمرارة عما يقوم به هذا المتصابي الأرعن عبر قناته المتدنية بمجمل ماتقدمه، لاسيما الأصوات الناشزة والبرامج المحشوة بكل مافي الانحطاط من معايب وراحت تهرس المواهب الشابة دونما رحمة، ولربما تسلل تذمر رياض وغضبه للقائمين على شأن القناة من مخبرين وسماسرة فراحوا ينصبون له الشراك والمصائد بهدف الإيقاع به برغم حذره الدائم وتوجسه، لكن ذلك كله لم يجد نفعا، إذ أستحدثوا له سهرة تقدمها أحدى المحسوبات على الشعر الشعبي وهذه هي الطامة الكبرى التي أبتلت بها الثقافة العراقية فأستضافته الى جانب عدد من الفنانين والشعراء، وبما أنها قامت بحركات دلع وغنج لم تعجبه فقد ثارت ثائرة رياض وترك البرنامج، وماهي إلا جرة قلم مسموم على ورقة صفراء معنونة (لأستاذها الفاضل) حتى لاقى رياض عقاباً بدنياً، وكان ذلك من أبسط ما تنفذه هذه المؤسسة التي فاقت فضائحها كل مايجري وقتذآك من أوساخ وصارت قصص العاملات فيها حديثا يوميا للناس، وكشفت صحيفة القبس الكويتية أرشيفاً كاملاً بالأسماء والوقائع بعد العثور على مخلفات عار الصبي المتهور (عدي) بعد سقوط صنم والده في التاسع من نيسان 2003!.
أيام أخيرة
قبل رحيله بنحو عام دعاني والصديق الشاعر والإعلامي حميد قاسم وكان وقتها محررا فاعلا في مجلة ألف باء الأسبوعية وتحدثنا عما نحتفظ به من ذكريات أيامنا الأولى وأخبار الأحبة والأصدقاء في المنافي وراح رياض يحدثنا عن سفرته الى فرنسا ومصادفاته ومهاتفاته لعدد من الأصدقاء ومن بينهم كوكب حمزة وقحطان العطار، وكذلك عن الاحتفاء الذي حظي به من قبل الصديق المشترك طه رشيد وعائلته في الريف الفرنسي، الأمر الذي استهوى الصديق حميد ليجعل من تلك الجلسة حواراً جميلاً نشره على صفحات «ألف باء» مستشهداً بجملة لرياض ( صوتي بدأ ينضج الآن) مع أنه كان قد أدى أغنيته «مرة ومرة» وأصبحت ماركة مشاعة في الشارع العراقي إذ بثت من خلال فعاليات مهرجان بابل.. وكانت آخر فعالية شارك بها على مضض.
للريل وحمد
بعدها بشهور طلب مني أن أحصل له على نسخة من مجموعة الشاعر ـ مظفر النواب- «للريل وحمد» وهي النسخة المتبقية لي، فسارعت بتسليمها له وهمس لي بأنه سيحولها إلى ألبوم غنائي، وكان حقاً آخر ما فعله وكانت المجموعة برمتها في البوم الموالات.
راحت الأيام تطوي صفحاتها بخبث ولؤم مع رياض، وماعاد يعتني بصحته ولاحتى يصغي لنصائح الأصدقاء، وكم أفجعني برحيله حتى كاد يميتني معه.
الأثر الذي تركه رياض حينها كان يشبه الصاعق، وأتذكر للحظة كيف أذاعت الاعلامية أقبال حامد خبر رحيله وهي تجهش بالبكاء من على شاشة التلفاز الرسمي، وكيف سارعت الإعلامية القديرة مريم السناطي لتكرس الصفحة الأخيرة من جريدة الجمهورية لتغطية وقائع الخسارة التي مني بها فن الغناء العراقي الأصيل متصدرة كتابة الصديق حسن عبد الحميد التي حملت عنوان «السنديانة التي تهاوت»!! وهكذا تهاوت السنديانة حقاً.. ولم يبق لدي سوى مفكرته التي سجل فيها العديد من الوقائع والتي أوصاني بتسلمها من ولده الرائع (أحمد).. أغمض رياض عينيه الوديعتين ولم يزل صوته يتحدى الأصوات؟