قصائد في أفلام سينمائية..كلمات تبعث الروح في المشهد والمشاهد

آية منصور/

تقول الشاعرة الأميركية جلينس ريدموند: أنا أؤمن بأن الشعر يشفي لأنه يتيح لي الدخول إلى أعماق قلبي. هكذا ببساطة تقتحم القصيدة أبواب قلبك من دون طرقه وأنت تستمع إليها بصوت كاتبها، في الطريق، أو حتى وأنت جالس لتقرأ، لكن هل فكرت يوماً أن تجد قصيدة ما في فيلم؟ قصيدة غير مرئية، لعلّها كذلك، في الخفاء تجلس وعلى حين غرة تخرج في مشهد سينمائي. لعلّنا لا ننتبه كثيراً لهذه القصائد بل أن بعضنا قد لا يعرف أن هذه الكلمات التي يسمعها في الفيلم إنما قصيدة لشاعر معروف.

أيها المشاهد.. هذه قصيدة

لعل الأمر المحزن أن تمر هذه القصائد مرور العابرين بين اللقطات، من دون أن ينتبه لها المشاهد، أو حتى يدرك سبب وجودها. لكننا سنحاول ذكر البعض منها ليتسنى لنا الانتباه في المرات المقبلة.

رثاء النجوم والسماء

في فيلم “قائم بين النجوم” للمخرج الأميركي “كريستفور نولان” والذي يتناول أحداث مسيرة لروّاد فضاء يسافرون عبر ثقب دودي من أجل اكتشاف كوكب آخر صالح للحياة، بعد أن أنهكنا الأرض. لكنها أيضاً رحلة نحو أعماق الإنسان الذي أوصلته أنانيته إلى محاولات للبحث عن كوكب آخر لتهديمه. ما يهمّ هنا ليس العثور على كوكب مناسب للحياة بالنسبة للبشر، بل كيف تمكنت البشرية بأنانيتها الكبيرة أن تضطرنا للبحث عن بديل؟

وخلال ثلاث ساعات، هناك كلمات تستغرق دقيقة ونصف الدقيقة، تتكرر أربع مرات. وهذه الكلمات هي قصيدة الشاعر الويلزي “ديلان توماس” التي كتبها وقت كان يشعر بالعجز الشديد نحو والده الذي يحتضر.

مرثية توماس – الذي كان قد صمت طويلاً عن الشعر – تحمل حسّاً إنسانياً عميقاً بالمرارة. كان يراقب ضعف أبيه القريب من الموت وكتب القصيدة. عنوان القصيدة “لا تمض بيسر في هذا الليل الآسر”، وابتدعها نتيجة تأثره بلوحات الرسام البريطاني “سيري ريتشاردز”. حيث قام الممثل “مايكل كين” بالقاء القصيدة لهم من الأرض، بدلالة قد تبدو واضحة بعض الشيء، تشير إلى رثاء كوكبنا الأرض:

على الشيخوخة أن تشتعل وتزأر مع أفول النهار

وتنتفض.. تنتفض ضدّ موت الضوء

مع أن الحكماء يدركون عند النهاية أن الظلام حقّ،

لأن كلماتهم لم تبرق بضوء

إلا أنهم لا يستسلمون مهذبين لتلك الليلة الأخيرة

الطيبون بتلويحاتهم الأخيرة

يهتفون: كم كانت أقدارهم ستأتلق

لو أنها تراقصت في خليج أخضر.

القصيدة نفسها عرضت كذلك في فيلم آخر هو “العودة الى المدرسة”، حيث تحفز مدرسة اللغة الانجليزية أحد المتقدمين للاختبار فيقوم بالقائها بطريقة رائعة.

قيامة الرجال الجوف

فيلم “القيامة الآن” الذي حظي بشهرة واسعة عند إنتاجه، لتناوله موضوعاً إنسانياً طالما جرى التكتّم عليه. الحرب في فيتنام، المصائب التي يتعرض لها السكان العزل، الموت والدمار، كانت مأساة الضابط المنشق “مارلون براندو” أنه رأى الفظائع في قرية فيتنامية مرت بها وحدة طبية أميركية وأعطت لقاحات لأهلها محصنة من الأمراض السارية والمعدية، لكن وحدة أخرى مرت من هناك أيضاً، قامت بتقطيع أذرع من أعطيت اللقاحات لهم. فيقرر الانشقاق عنهم والعيش في مكان منعزل، فيحاولون قتله، وإقامة نسق آخر من الانشقاق. وفي آخر الفيلم يقوم بإلقاء القصيدة التي تعّد الأكثر تعاسة وسوداوية لـ”ت. س. إليوت” وهي”الرجال الجوف” التي كتبها عام 1925 حين كان في السابعة والثلاثين، بعد ثلاث سنوات من إصدار قصيدة “الأرض اليباب”.

كانت أوضاع اليوت الاجتماعية والسياسية – بعد مؤتمر فرساي – سبباً واضحاً لنقل ما في داخله إلى هذه القصيدة. بعضهم أرجعها أيضاً إلى الأزمة الزوجية التي عاشها حين اكتشف أن زوجته فاليري على علاقة بالفيلسوف “برتراند راسل”:

نحن الرجال الجوف

نحن سقط المتاع

كتفاً لكتف وعلى بعضنا نتكئ

وا حسرتاه

فخوذة الآمال يملآها الضياع

وحين الهمس يسرى بيننا

فصوتنا يباب

بلا معنى نحن خامدون

كالريح تعوى فى يابس الحقول والفجاج

أو أقدام جرذان فوق مهشم الزجاج

ونحن في قبونا السراب

شكل بلا جسد

ظل بلا ألوان

عزيمة مشلولة بلا عضد

إيماءة بلا شعور أو حنان

أولئك الذين هوموا وغادروا

بأعين مشرعة

نحو مملكة الموت الأخرى

فلتذكرونا

بأي طريقة ترون

ليس كأرواح عنيفة وضائعة

لكن كطواويس الرجال.

القبطان ويتمان

في فيلم “جمعية الشعراء الموتى” للمخرج الأسترالي الأصل “بيتر وير”، نكون في إحدى الجامعات، حيث التعليم الروتيني المملّ، والمناهج المكررة والأسلوب التقليدي في التعليم، يخرج أحد الأساتذة لتأهيل الطلبة للدراسة الجامعية من خلال حثّهم على التفكير بحريّة دون تقيّد، وإطلاق أحلامهم ومواهبهم.

في إحدى الحصص يطلب هذا الأستاذ من الطلبة أن يمزقوا فصلاً كاملاً من كتاب بعنوان “ما هو الشعر” ويعلمهم أن الشعر ليس بحاجة الى معانٍ. الشعر بسيط مثل ضحكة طفل، لن تستطيع إجادته بمنهج دراسي، قد تفعل ذلك حينما تشعر بمن حولك. ثم يقرأ على طلبته أبياتاً من قصيدة للشاعر الأميركي “والت ويتمان” بعنوان “قبطاني يا قبطاني”، بعدها يقرر الطلبة أن يكون هذا المعلّم قبطانهم الأبديّ!

قصيدة ويتمان عن سفينة يقودها قبطان حكيم، تعاني سفينته المصاعب والأهوال حتى تصل غايتها. وعند وصولها بر الأمان تفقد جزءا أساسياً من هذه الرحلة وهو القبطان! وعند الوصول للأرض تقرع الأجراس ابتهاجاً بوصول السفينة: جمهرة من الناس تلوح للقائد الذي انتصر في رحلة الأهوال. لكن القبطان القائد لن يجيب. وهنا تكمن رمزية الفيلم، هنا يتحدث “روبن ويليامز” عن سفينته مع الطلبة، التي تنتهي بإخراجه وطرده من الجامعة !

لكن القصيدة الحقيقية لوالت ويتمان كان قد نشرها ليشير بها إلى السياسي الحكيم، الذي لا يفكر بشيء أكثر من شعبه وبلاده. قاصداً الرئيس الأميركي إبراهم لينكولن:

قبطاني! يا قبطاني! انتهت رحلتنا المرهوبة

السفينة أبلت كلّ لوح، ولقد حزنا جائزتنا المزعومة

الميناء قريب.. الأجراس أسمعها.. والناس كلهم يلوحون

وبينما العيون تتبع العارضة، وبينما المركب يبحر حزيناً جريئاً

ولكن يا لقلبي! يا لقلبي! يا لقلبي!

ويا لقطرات الأحمر النازفة

حيث يرقد قبطاني فوق ظهر المركب

بعد أن سقط ميتاً بارداً.