هل كان أثرياء الماضي أكثر تحضراً وكرماً

طالب عبد العزيز /

استهجنت الزميلة رؤيا غالي وجود الكراسي البلاستيكية في تأثيث حفل افتتاح متحف البصرة، قبل أسبوعين، الذي تم تشييده بمشورة ومعاضدة مالية من المتحف البريطاني،

وحضره عدد كبير من المسؤولين في الوزارة وفي المحافظة، استنكرت اللا ابالية التي تسود أفعالنا في تنفيذ فعاليات كهذه، وهي تشير الى أن المتاحف في العالم، عادة ما تُؤثث بالفاخر والأنيق من المقاعد والمناضد، وبما يوحي بأهمية المكان، ومن أجل إضفاء القداسة عليه – نعم القداسة- وهذا ما شاهدناه ونشاهده في معظم متاحف العالم التي ندخلها. ويأمرنا موظفوها بعدم التصوير والحديث بهمس، وهي محقة في ذلك، ونجد أنَّ أمراً كهذا، لا بد من إناطته بالمعنيين عن قرب، بأعمال مثل هذه. هل نقول بان مؤسساتنا الثقافية جزء من اللاابالية، وأننا بلغنا نهاية شوط التخلف والتراجع، حتى في أدق تفاصيل حياتنا وآفاق مستقبلنا؟ لا نريد ان نكون متشائمين أكثر.

من أجل بغداد أجمل

في العرض الذي قدّمه الفنان نصير شمه على قاعة المسرح الوطني، صحبة عازفين عالميين كبار، بينهم عازفة الكمان الشهيرة، التي شاهدناها مع الموسيقار اليوناني ياني، في سيمفونية سور الصين، استوقفني حديث شمّه، الذي بيّن فيه تكليف بعض المصارف المحلية بتجميل ساحات وتقاطعات بغداد، وقد تحدث أحد ممثلي المصارف هذه عما يعاضد ويؤكد الفكرة، من أجل بغداد أجمل وأكثر تحضراً. كانت الفكرة أكثر من رائعة، والمبادرة منه يقظة وعظيمة، أجل، يقوم كل مصرف بتجميل إحدى الساحات، على أن يشاركه في ذلك الفنانون والنحاتون والرسامون والشعراء، وكل من يهمه أمر بغداد العظيمة، بغداد التي نريدها باذخة الجمال، أليست هي حاضرة الدنيا؟

ليس في الفكرة معجزة ما، وما اقترحه الفنان نصير شمه، ظلّ يدور في ذهن أي واحد منا، نحن الذين ابتلينا بحب بلادنا، إذ أن أعمالاً كهذه كانت متداولة في عراق ما قبل الجمهوريات وما بعدها أيضاً، وهي واحدة من أفكار التطور في بلدان العالم، وما قاعة الفن الحديث في الباب الشرقي، إلا قاعة متحف كولبنكيان، الثري النفطي، وما ملعب الجمهورية في البصرة إلا ساحة كولبنكيان، وما كانت مبرة البهجة لرعاية الأيتام في البصرة إلا من أعمال أسرة النقيب، وكذلك كان الميتم في محلة نظران، وكذا كانت مستشفى البصرة العام، مستشفى الجنرال مود، وهي من أملاك بيت النقيب أيضا، وإلى اليوم يقدم مستشفى العقيل في الزبير خدماته، وهو من أعمال بيت النقيب، الأسرة الزبيرية المعرفة، ولا أعلم ما إذا كان مثل ذلك، قد حدث في بغداد والموصل وكركوك والعمارة والحلة وغيرها.

أثرياء أكثر تحضراً وكرماً

هل نقول بأن أثرياء الزمن ذاك كانوا أكثر تحضراً وكرماً وإحساناً، من أثرياء العراق اليوم؟ أم نقول بانَّ هؤلاء كانوا المحسنين الوحيدين في عراق ما قبل وبعد صدام حسين، أم نقول بان أثرياء اليوم أكثر لؤماً ووحشية وتخلفاً، إذ أننا لم نسمع ونشاهد ثرياً واحداً من أثرياء العراق اليوم، والذين نجزم أنْ ليس فيهم من كانت أمواله نقية، خالصة، استحصلها بكدّه وعرق جبينه، ولم تشبها شائبة الفساد والتزوير والأتاوات، نقول ليس فيهم من تبرع ببناء مستشفى، مستوصف، مدرسة، نعم، سارعوا لأعمال مثل ذلك خارج العراق، أسسوا لأسرهم المصالح والمنافع، لكن في أوروبا والأردن والخليج والقاهرة وإيران ربما، أما هنا، فلم نسمع ولم نر معنى من معاني البرّ والإحسان هذا.

من المؤسف، أننا لا نرى في سياسة الدولة وفلسفتها، ما يقوم على التنبيه والحث على أعمال خيرية كهذه، وهي مما تدعو له دول العالم وتشرّع لأجله، وظلت المؤسسة الدينية تعمل خارج الإطار هذا، فهي منشغلة بما هو أكبر من ذلك، على ما يبدو، إذ لم يدع خطباء المساجد والمرافق الدينية – اللهم إلا البعض النادر فيهم – دعوات تصب في الاتجاه هذا، أو الحث عليه، وصار الاعتقاد بأن بناء المسجد والحسينية والموكب ومضيف العشيرة وحدها من أعمال البر والاحسان، وهي مما يدخل فاعلها الجنة ويجعله في عليين، أما المستشفى والمستوصف والمدرسة فهي من أعمال اللهو، أو مما يتوجب على الدولة وحدها القيام به، وقد يبدو الأمر صحيحاً، لكن الدولة اليوم غير قادرة على بناء كل شيء، من دون مساعدة قطاع المستثمرين وأصحاب رؤوس المال والشركات. لا نريد أن نبدو واعظين في قضية كهذه، لكننا نجد أن مراجعة بسيطة لتواريخ الشعوب والأمم تؤكد صحة ما نتوجه من أجله.