المجلس الدائم

مالك خلف وادي /

في خطوة ستراتيجية تعبّر عن تحوّل جوهري في فلسفة الإدارة الاقتصادية في العراق، أطلق رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني أعمال المجلس الدائم لتطوير القطاع الخاص، ليشكّل بذلك منصة وطنية جامعة تهدف إلى تصحيح المسارات التنموية، وتفعيل الدور الحقيقي للقطاع الخاص بوصفه شريكًا أساسيًا في بناء الاقتصاد الوطني.
لقد عانى العراق، على مدى عقود من الزمن، من تهميش ممنهج لدور القطاع الخاص، لصالح نموذج ريعي يعتمد كلياً على الدولة كمصدر رئيس للدخل والتوظيف. وقد أدى هذا النموذج إلى تضخم الجهاز الحكومي، وغياب الحوافز التي تدفع نحو الإنتاجية والاستثمار. من هنا، فإن إطلاق هذا المجلس لا يُعد إجراءً شكليًا أو خطابيًا، بل يمثل – برأيي – نقطة تحوّل جوهري في السياسات الاقتصادية، ويعكس إرادة سياسية حقيقية للانتقال إلى نموذج اقتصادي متوازن ومتعدد الموارد.
في كلمته خلال حفل الإطلاق، شدد رئيس الوزراء على أهمية أن يباشر المجلس أعماله بفعالية، وأن ينطلق من المصلحة الوطنية العليا، مع التركيز على مراجعة القوانين المعطلة والمعرقلة التي تقف عائقاً أمام نمو القطاع الخاص، والعمل الجاد على تعديلها أو اقتراح تشريعات جديدة تسهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر مرونة وشفافية.
ولعلّ اللافت في رؤية السيد السوداني هو تأكيده على تمكين الشباب، ودعم ريادة الأعمال، والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها العمود الفقري لأي اقتصاد صاعد. وهذا توجّه يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية التي أثبتت أن تحفيز هذه الفئات يفضي إلى تعزيز النمو، وخفض معدلات البطالة، وتحقيق تنمية محلية أكثر شمولًا. من واقع عملي في دائرة تطوير القطاع الخاص، أرى أن الربط المؤسسي الحقيقي بين القطاعين العام والخاص يجب ألا يقتصر على التنسيق الشكلي، بل يستند إلى شراكة تقوم على تبادل المسؤوليات والفرص والمخاطر، وهو ما سوف يسهم في تقليل الهدر والتأخير في تقديم الخدمات، وتحقيق استجابة أسرع لمتطلبات السوق والمواطنين.
كما أن البيانات التي استعرضها السيد رئيس الوزراء تعكس حجم التحديات، لكنها في الوقت ذاته تُظهر بوادر إصلاح حقيقي. فعلى سبيل المثال، بلغ الإنفاق الفعلي لعام 2024 نحو 156 تريليون دينار من أصل 213 تريليونًا في الموازنة، مع تخصيص 90 تريليونًا للرواتب، و40 تريليونًا للموازنة التشغيلية، و26 تريليونًا للاستثمار، منها 13 تريليونًا موجهة لجولات التراخيص. هذه الأرقام تكشف الحاجة الملحّة لإعادة توجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية.
وفي ما يخص الجانب المالي، فإن الشمول المالي الذي ارتفع إلى 40 % مقابل 10 % قبل عامين، يُعد قفزة إيجابية، لكنها ما زالت دون مستوى الطموح. أما التقدّم في الدفع الإلكتروني، وتوسيع العلاقة مع البنوك المراسلة الدولية، فيشكّلان مؤشرًا واضحًا على انفتاح النظام المصرفي العراقي على الأسواق العالمية وتعزيز ثقته.
وفي هذا السياق، من الضروري أن يولي المجلس اهتمامًا خاصًا بمكافحة سياسات الإغراق التي تُضعف المنتج الوطني، وتتسبب في إحجام الصناعيين العراقيين عن الإنتاج، بسبب المنافسة غير العادلة من السلع المستوردة. كما لا بد من تشديد الرقابة على المنافذ الحدودية لضمان جودة السلع الداخلة، وحماية صحة المستهلك والاقتصاد معًا.
في المحصلة، فإن المجلس الدائم لتطوير القطاع الخاص، إذا ما فُعل بآليات واضحة، ورؤية واقعية، وإرادة تنفيذية حقيقية، سيكون رافعة اقتصادية كبرى، تسهم في تحقيق تنمية شاملة، وتوفّر الآلاف من فرص العمل، وتعيد للقطاع الخاص مكانته كشريك أصيل في بناء العراق الجديد.