معشوقات الشعراء

عبد المنعم الأعسم

في الماضي كنتُ، والكلام لنزار قباني: “عندما أعيش قصة حب / استعمل ورق الرسائل / وأزهار القرنفل /…واليوم / اقتحم حجرة نومكِ بالفاكس.” ويقال إن عاشقات نزار تسببن بموت شاعرهن الجميل وهو يلقي يديه على أكتافهن.. هذه بلاغة شعرية، وغالبية بلاغات الشعر عن المعشوقات أكاذيب. وفي وقت مبكر قيل إن عنوان “الرُقيات” أطلق على دفتر من قصائد الشاعر عبد الله بن قيس، نظراً إلى تعدد النسوة التي عشقهن، وكل واحدة تسمى رقيّة.
وطبقًا للجاحظ، عثمان عمرو بن بحر، فإن أصابع البلاغات الشعرية تضرجت بالدم في عصر ما قبل الإسلام، وذلك بعيدًا عن طعون عميد الأدب العربي طه حسين بصدد صحة الشعر الجاهلي.. فقد تسبب الحب في مقتل شعراء كبار: جميل بن معمر قتله حبّ بثينة، وكثير قتله حبّ عزة، وعروة قتله حبّ عفراء، ومجنون بن عامر هيَّمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلته لبنى، وعبيد الله بن عجلان قتلته هند، والغمر بن ضرار قتلته جمل.
على أن معشوقات الشعراء القدامى، باستثناء عدد قليل منهم، لسن سوى أسماء مجردة أضفت عليهن إلهامات الشعر وخيالاته، واعتبارات القبيلة والمجتمع، صفات وقصصًا من غير قرينة ولا امتداد، فأغوت الواقعة العديد من المحققين في التراث، الباحثين عن الطرافة والغرابة، للاستطراد في “توثيق” صفحات العشق في ذلك الزمان، الأمر الذي ضاعف من استيهام القراء في استعارة “وهم” كان الشعراء يتسلون به او يلجأون إليه في تحريض شاعريتهم وترويج قصائدهم وتزويق حظوتهم.
وفي مدونات عدة، نعثر على معشوقات كن يجهلن خبر إقامتهن في أفئدة الشعراء المحبين، وبعضهن بعيدات عن أغراض القصائد التي ترد أسماؤهن في ثناياها، ولا صله لهن بنسيج الرواية إلا التشبه باسم العاشقة، أو الغادرة، المغامرة، فتتضارب الأحكام من قبل الشعر لها، تتركز في صاحبة الجمال والفتوة والشأن، أو المشاكسة منهن، فيما حظيت الجواري بحصة وافرة من “إهداء” القصائد، كما استأثرت اللواتي يمتن مبكرًا، او يرد ذكرهن في واقعة لها أثر، برقيق الشعر، على أنه قيل في حياتهن.
وحكاية الأعشى مع سمية تحمل دلالة الاستخدام العشوائي لاسم المعشوقة، فقد ذكر البغدادي في “خزانة الأدب” أن الشاعر كتب فيها قبل أن يراها، ولربما دون أن يعرف للاسم قرينة، وفي سفرة له ضل الطريق.. يقول: “فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكاناً ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء شعر.” وفي تلك الخيمة تعرّف الأعشى على شيخ ليتجاذبا أطراف الحديث، وصار يتلو له شعرًا حتى أتى إلى بيته المشهور:
رحلت سمية غدوة لجمالها / غضبًا عليك فما تقول بدا لها”
آنذاك هتف الشيخ متسائلًا عن “سمية” الشاعر، فرد الأعشى: “لا أعرفها، وإنما هي اسم ألقي في روعي.” فما كان من الشيخ إلا أن نادى: يا سمية، وإذا بجارية خماسية قد خرجت فوقفت، وقالت: “ما تريد يا أبي؟” فيفاجأ الشاعر حرجًا، ويأخذ الحديث مجرى آخر، ثم يعود إلى الشعر، فيمر الأعشى بقصيدته الشهيرة:
“ودّع هريرة إن الركبَ مرتحلُ / وهل تطيق وداعًا أيها الرجلُ”
فما كان من الشيخ إلا أن يهتف مجدداً: يا هريرة.. فإذا بجارية قريبة السن من الأولى خرجت، وإذا بهما معاً نزلتا في أكثر من قصيدة، كعاشقتين لشعراء آخرين، وآنذاك دخلت أسماء لامعة من نساء العرب في قصائد شعراء من الصعاليك. فإن حكاية المتجردة، زوجة النعمان ملك الحيرة، تصلح للتأمل في عبث الشعراء والرواة معًا بدلالات اختيار اسم المعشوقة، ومدى ما يثيره من حساسية في مجتمع القبيلة.. فقد كان الشاعر المنخل اليشكري، وكان من ندماء النعمان، قد أحب فتاة اسمها (أو سماها هو) المتجردة، وأهدى لها أرق قصائده التي من البداهة، إذا ما قيلت أمام الجمهور، أن تلفت الأذهان الى أميرة الحيرة.
وللباحثين المعاصرين أكثر من سبب للشك في وجود معشوقات حقيقيات في الموت الفاجع لشعراء قدامى، فلم يتثبت صحيح موت المرقش بين يدي ابنة عمه أسماء، وموت بشر الأسدي الذي شهق في آخر دفقة للروح وألقيت معشوقته هند بنفسها عليه فإذا بها ميتة، وموت عروة بن حزام وهو يتلو الشعر لمحبوبته عفراء، حيث خرجت بعد ذلك إلى قبره وراحت تبكي حتى فاضت روحها.