أعراس انتخابية

786

حسن العاني  /

في واحدة من الانتخابات التي شاركت فيها قبل سنوات بعيدة نسبياً، ولا أذكر على وجه التحديد إن كانت برلمانية أو مجالسية، شاعت عبر وسائل الإعلام عبارة (أعراس انتخابية)، ولا أدري هل تم استعمال هذا التعبير من قبل، أم أنا الذي سمعته لأول مرة، وبغض النظر عن كون مفردة (عرس) أو (أعراس) أعادت الى ذاكرتي عبارة قديمة جداً، هي (عروس الثورات)، وصفاً لانقلاب (8 شباط) الدموي عام 1963.
حقاً تعاطفت كثيراً مع مصطلح “أعراس انتخابية”، فقد كان المشهد برمته عرساً بمعنى الكلمة، لأن الناس تتوجه الى (الصناديق) بما يُشبِهُ الأمواج البشرية المتعاقبة في جو من الاستتباب الأمني، والسعادة لا يصعب التعرف عليها في العيون وعلى الوجوه، ولعل أروع ما في هذا المشهد الكرنفالي، أن أحداً، سواء كان فرداً أم جماعة مسلحةً أم حكومة أم حزباً، لم يُجبر أيّ مواطن على الحضور والمشاركة، كما أن أحداً –مهما علا شأنه أو كبُر نفوذه في السلطة أو كبُرت عمامتُه بين العمائم أو طال لسانه أو كثر أتباعه وانتفخت ترسانة سلاحه- لم يفرض سلطانه أو إرادته على إرادة الناخب، أو يُملي عليه مالا يشتهي ولا يريد.. لأن الجماهير كانت سلطانة نفسها، وسيدة الموقف..
بمنتهى الصدق، كان العرس عابقاً بالبهاء والبهجة، ليس على الناخبين فقط، بل على المرشحين كذلك، لأن الأبواب مشرعة كأبواب العيد على مصاريعها أمام الجميع، لا فرق فيها ولا تميّز ولا تمييز، حيث وقف الماركسي والقومي والإسلامي والملحد والتقدمي والرجعي والوطني والعميل، مثلما وقف الغني والفقير والمحجّبة والسافرة، والسياسي المضبوط والطارئ على السياسة.. وقف الجميع مثل أسنان المشط في الترشيح والدعاية وتمزيق صور منافسيهم، لا فرق بين أعداء صدام وأزلام صدام، ولا بين عالم الذرة والحرامي.. تلك هي الصورة، لم يَحُلْ حائلٌ أمام حقهم الدستوري الذي ساوى بين عميد كلية الحقوق وبين أمير تائب من أمراء القاعدة، ولم توضع خطوطٌ حمرٌ تحت أسماء معينة بسبب القومية أو الدين أو المذهب. أما المشهد العام للمفوضية التي تصف نفسها بالمستقلة، فيؤكد على أن المشاركة في العملية الانتخابية قد جرت على وفق قوانين وضوابط وتعليمات، يمكن أن تعطي الحق لأصغر المرشحين كياناً ونفوذاً، وأقلهم مالاً وإمكانيةً إذا كان محقاً، ويمكن أن تمنع أكبر المرشحين نفوذاً وجاهاً وكياناً ومالاً إذا تخطى حدوده..
أية سعادة كنتُ مغموراً بها وأنا أشارك في العرس بكامل حريتي وبعد طول تأمل وتفكير واستعراض لأسماء الكيانات والأشخاص، أدليتُ بصوتي لصالح الكيان (كذا) لأنه أقرب شيء إلى توجهاتي، وطروحاته تنسجم مع المبادئ التي أؤمن بها، ولم أمنح صوتي للكيان (كذا) ليس لأن بيني وبينه (دكّة عشائرية)، أو بيني وبين زعيمه إحدى المناطق المتنازع عليها، بل لكون برنامجه وطروحاته لا تتواءم أبداً معي ولا مع الكيان الذي اخترته..
ثمة أمر حدث خارج التصور والمتوقع، نغّص فرحتي وكدّر أجواء العرس، لأن الكيان الذي وهبته صوتي إيماناً به وقناعة، عبث بي وبحريتي، ولم يُقِمْ وزناً لأرادتي وهو يتحالف مع الكيان الذي يتباين معه ومعي في كل شيء: المستقبل والمنهاج والرؤية والفكر، وأنا لا أدري بأي حق من حقوق الديمقراطية يتصرفون بصوتي.. كنتُ أغلي غضباً وقد أوجعني الندم حتى عضضت سبّابتي التي لم يجف حبرها وكدت أقطعها، لأنهم باعوني في سوق المناصب والمصالح والكراسي الدوّارة..