استكشافات الملاذ الضائع

684

حسام السراي/

نلومُ مع أنفسنا بعض المغتربين الذين يطلقون توصيفات قاسية عن حالنا هنا، والحقّ أنّنا تصالحنا بشكل لا إرادي مع تفصيلات الحياة وقبلنا المضي بيومياتها، لكن ليس بنحو استسلاميّ، بل بتحدّ تتعدّد سماته.
فيما أصدقاؤنا المغتربون، ممّن لهم سيرة من العيش في مكان ثانٍ وبيئة مختلفة تماماً، تصدمهم وقائع العراق الراهن وهم فيه، وبعضهم يدرك بوعي عالٍ في مقابل من يجتزئ من الصورة الكلية، ثلاثة عقود من تهديم المجتمع والبنيان في أوان واحد.
إلا أنّ الذي يجد حلمه مجرّد سراب، ولا يتعرّف إلى مدينته، أو لا يستعيد حتّى ذكرياته فيها،  يتحفّز في دواخله اغتراب من نوع آخر، ويصبح معها تجديد الصلة بالماضي- مكاناً وأناساً- صعباً، إنْ لم يكن مستحيلاً.
أنصعُ الأمثلة المستعادة، هو حنين الشاعر فوزي كريم إلى محلّته “العبّاسية” وإلى خمّارة “كاردينيا” قبل أربعة عقود تقريباً. في كتابه “العودة إلى كاردينيا”، الذي وضع نقطة نهايته العام 2000، يسمي هذه العودة بـ “الملاذ”، ويتفنّن في وصف التناقضات ضمن محل النشأة: “في “العبّاسية”.
لذا دائماً ما أجدني مهتمّاً بمتابعة الآراء، الدقيق منها والعابر، عن التضاريس القديمة والناس والفوارق التي يهتدي إليها مثقفون مغتربون في زياراتهم، وللتأريخ ألمس في الغالب انكساراً كبيراً ممّا حلّ ويحلّ، مع مسحة خفيفة من فرح داخليّ خجول وغير معلن، وهم يسمعون المفارقات العراقيّة الغريبة التي اشتاقوا إليها، فتهدأ صدمتهم- آنيّاً- في ملاذهم الضائع الذي صار بعيداً.
ولأنّ الشواهد التأريخيّة تعلّمنا ألا ثوابت في هذا العالم، بالتالي فإنّ اللازمة العراقيّة المتداولة شعبيّاً: “هذا البلد ما تصير إله جاره”، هي تعبير دقيق عن النَفَس الاتكاليّ الذي يتوكّأ على عصا “اليأس المريح”، وعن الافتقاد إلى المبادرة التي تهتكت روحها قديماً، إذ يشترك في شيوع هذه الانهزاميّة مقيمون ومغتربون أيضاً.
لقاءات متفرّقة ببغداد، جمعتني، مؤخّراً، بثلاثة من المثقفين المغتربين، أوّلها وأغناها هي بالمفكّر د.فالح عبدالجبار، كنت أرافقه في ليلته الأخيرة ببغداد، سألته عن رأيه بالمكان وما الذي وجده؟ “المدينة تتراجع، لكنّي وجدت جيلاً جديداً، حدث لديه هذا الانفصال المهم عن الانتماءات الطائفيّة، وولادة هؤلاء لحظة تاريخيّة وتأسيسيّة”، كان جوابه الذي توقفت عنده وأخذت أراجع شقّه الثاني.
سبقها لقاء بالشاعر شوقي عبدالأمير، فتصمت أمام خيبته من بلاد عاد إليها مرّات كثيرة، وهي خيبة العائد الذي أوصد الأميّون الأبواب بوجهه،
آخر اللقاءات الاستكشافيّة، هي مع الشاعر عواد ناصر، الذي تنتبه إلى اهتمامه بدعوة مثقف شاب لحضور أمسية له في منتدى ثقافيّ ببغداد، فيستدرك لجلسائه: “هؤلاء الشباب لن يكونوا من الجمهور التقليديّ، دعونا نعزّز الصداقة  ويصغون إلينا ونصغي إليهم”.
هذا المنطق الذي يعلنه الشاعر، يحمل ضمناً هجاء خاصّاً لعقائد الداخل والخارج، ويمنح التواصل الثقافيّ بين الأجيال العراقيّة طيفاً من الطاقة الايجابيّة .