العائد من الموت!

374

بيان الصفدي /

وكان ذلك الشاب –وهو كريم العراقي أبو ضفاف ويعمل معلماً- اسماً متصدراً للأغاني التي تمجد صدام حسين وقتها، لذا كنت أعجب من بساطته وطيبته، ما يناقض تلك الكثافة في أغاني المديح، وكانت قصائده التي يكتبها للأطفال في منتهى العذوبة، لكن تنقصها دوماً سلامة اللغة أو الوزن هنا أو هناك، وزملائي يتذمرون من تدخلي الدائم لإصلاح الخلل، ويؤكدون لي أن كريم العراقي شاعر عامية لا أكثر، وكنت أعترض على كلامهم، وأن الأصل هو الشاعرية والقدرة على تناول الموضوع الطفلي، أما اللغة والوزن فبالإمكان تداركهما، وعندما يزورني كريم أنبهه إلى العناية باللغة والوزن، فيتقبل رأيي بخجل واضح.
وعندما قدم مجموعته الأولى للنشر (سالم يا عراق) رفضها الزملاء بسبب ما فيها من أخطاء، وقبلتها بحماسة، ورجوت السيدة أمل الشرقي ألَّا تضيع فرصة دعم شاعر شاب. وبعد حوار قصير وافقت بشرط أن أتولَّى تخليص المجموعة من شوائبها، فقبلت المهمة، وعرف كريم بالأمر، فازدادت مودتنا، وراح يكيل لي عبارات المحبة الفائضة.
ذات يوم فاجأني أحد الزملاء بالقول إن كريم العراقي كان يفترض أن يُعدَم ضمن وجبة من عسكريين كانوا يؤدون الخدمة الإلزامية، لكنه نجا بأعجوبة، ثم أضاف زميلي: “اسأله، قصته عجيبة، هو يحكيلك!”
انتهزت فرصة قدومه وحيداً، فهمست له بالأمر، فارتبك قليلاً، ومع إصراري وثقته بي راح يحكي لي قصته التي تتلخص بالتالي:
كان شاعراً لامعاً بشعر العامية في مهرجانات الحزب الشيوعي العراقي على الرغم من صغر سنه، وعندما ذهب لتأدية الخدمة العسكرية فوجئ بأنه معتقل ضمن ما يقرب من ثلاثين بتهمة التنظيم العسكري داخل الجيش، فحكم على الجميع بالإعدام، وسيقوا إلى سجن أمني رهيب، وعذبوا تعذيباً شنيعاً على تهمة لا أساس لها من الصحة، وخلالها صارت تأتي برقيات عربية وعالمية تطالب بالإفراج عن المعتقلين وخاصة الشاعر الشاب كريم العراقي.
كان السجانون ينادون على معتقل أو أكثر، ثم لا يعود منهم أحد، وذات يوم نادوا على كريم العراقي، فأحس أن يومه قد جاء، فسُحِب من بين زملائه، بثيابه التي تيبَّس الدم عليها من التعذيب، بعد أن وضعت كمامات على عينيه، ثم انطلقت به سيارة مع أشخاص لا ينبسون بكلمة تقريباً، لكنه استغرب، فقد أنزلوه من السيارة، وصار يسير على رخام، ثم سار على “موكيت” فخم وهو مضرج بدم يابس على جسده، ويلبس نعالاً ممزقاً، ثم أجلس على أريكة فاخرة، وعندما نزعوا العصابة عن عينيه كان في مواجهة صدام حسين مباشرة!
ضحك ضحكته المعروفة، ومازحه قليلاً، وقال له إن الرسائل التي كانت تصل لفتته إلى شاعر صغير السن بين الذين سيعدمون، وقال له:
“تذكرت أنني قرأت لبنتي حلا في (مجلتي) قصيدة لك، وأحبتها كثيراً، حرامات تضيع نفسك، أنا صدام حسين أدعوك لحزب البعث، أكتب طلب انتساب وروح لبيتكم!” ثم دفع نحوه بورقة بيضاء وقلم.
قلت لكريم: ماذا كان شعورك وقتها؟ قال:
“شعرت أنني في حلم، وأنني خارج من تابوت، فصرت أهتف وأقول كلاماً حماسياً، وملأت طلب الانتساب للحزب، ثم أخرجوني من القصر الجمهوري، ومضوا بي إلى حي الثورة البائس، فرجوتهم أن يتركوني في أوله، فمن المريب أن تدخل سيارة مرسيدس 280 زرقاء لتضعني أمام بيت أهلي البائس، وافقوا، فاستقبلني أهلي غير مصدقين، كأنني قادم من القبر.”
كان كريم قد تغيرت ملامحه وقد انتهى من روايته لي، ورجاني ألا أحكي ذلك لأحد، فهذه الذكرى كابوس يلاحقه، قلت له: “كريم أنت مقتنع بهاي الأغاني اللي تكتب كلماتها؟” قال: “لا والله.. وأشعر بالعار.. بس شتسوي.. الضعف البشري والحياة غالية!”