القروية النبيلة!

1٬040

حسن العاني/

سقط الاسم من ذاكرتي، كما سقط المكان، ولكنه ليس أمراً محزناً، فسواء كان إسمها (وردة) أم (تسواهن)، وسواء كانت من ريف ميسان أم من ريف الأنبار، فليس هذا هو المهم، لأن المهم حقاً يتمثل في كون هذه الفتاة حقيقية، وحكايتها كذلك، وأحلى ما في حكاية (وردة) هو ذلك الحب المفعم بالعذرية الذي جمعها بابن قريتها (حمدان)، غير ان جريمة ذلك الحب، انه خرج على أعراف القرى وتقاليدها، حيث لا يكتمل الزواج في نظرها، ولا تقرُّ به العين، إلا اذا كان من الأقارب عموما، ومن إبن العم خصوصا، وحمدان وان كان كريم الخلقِ جميلَ الخِلقة، الا انه غريبٌ، لا ينحدرُ من ذرية محبوبته، ولا من دمها وحسبها ونسبها، وهاهو يتوسط الوجهاء والخيرين للزواج، ولكن من دون جدوى، فمصير (وردة) يجب أن ينتهي عند إبنِ عمٍ أو قريب!!
الموقف صعب وللضرورة أحكام، وما كان بوسعهما إلا الهرب إلى قرية بعيدة، وعقد القران عند رجل دين، وأقدما على الخطوةِ المغامرة، وها هما يستقران في كوخ مهجور، وبالذي معهما من دنانيرَ شحيحةٍ، تدبّرا أيامهما الأولى، قبل ان ينصرف حمدان الى عمل هنا أو هناك، يدرُّ عليه اللقمة بشق النفس، فيما باعتْ وردة خاتمها ـ وهو كل ما تملك – وإشترت بثمنه بعض حاجيات المنزل، وقبل ذلك بضع دجاجاتٍ، وتفرغتْ لتربيتها وتكثيرها، ثم راحت تبيع (الفروج) والبيض، وهي سعيدة بزوجها مثلما كان سعيداً بها!!
الحربُ لم تتركِ العاشقين، ففي العام 1985 ألقت بحمدان في جبهات القتال، وفي عام 1987 أصبحت وردة أرملةً، وكان عليها مواجهة حياتها الجديدة وحيدةً، وليس ما تُحسِنُ صنعه سوى العيش على ما تدرُّه الدجاجات.. كذلك مضتْ أيامُها رتيبةً متشابهة مضنية، فقد إنتهت الحربُ، وبدأت الحرب، وأعاد العراق (الفرع) إلى (الأصل)، ثم تنازل الأصل عن الفرع، وإنتخبتِ الناس مكرهةً صدام حسين رئيساً بنسبة 100%، ولأن القروية النبيلة أتعبها الحزنُ والعمر، وفقدتْ ثلاثة أرباعِ نظرها وعافيتها، ولم تعد قادرةً على العمل بالهمة نفسِها، فقد راحت تأكل يوما وتصوم يوماً، و.. وقامت حرب مع أميركا، وسقط رئيس النسبة المئوية.. وإحتلال ومجلس حكم وإنتخابات وحريات وتظاهرات، وتشكلتْ حكومات، وصدرت قوانين وتشريعات، وإرتفعت أسعار النفط، وبعثرتِ الدولة أموالها كما يبعثرُ الطفل (يوميته)، ووردةُ تأكلُ بين يوم ويوم، وإنتهى المشهد بمأساةٍ إسمها حيتانُ الفساد، أتتْ على الأخضر واليابس، غير إن مأساة القروية النبيلة كانت الأصعب، حيث لم يكن أمامها وقد نسيتها الحكومات التي نسيتْ كل شيء، إلا أن تأكل يوماً في الاسبوع!!