بيروت.. بيروت

678

#خليك_بالبيت

د. حسن عبد راضي /

في أحد معارض الكتاب الدولية التي كانت تقيمها وزارة إعلام النظام السابق، عثر عليها أحد أصدقائنا فقرأها، ثم تلاقفناها من يده تلاقف الكرة، وتسربت نسخ منها هنا وهناك، ثم تنبّهت أجهزة الأمن – لا ندري كيف – لخطورة هذه الرواية/ الوثيقة وما تشتمل عليه من معلومات، لا عن بيروت إبان الحرب الأهلية اللبنانية حسب، ولكن عن الأطراف غير اللبنانية التي كانت تتصارع هناك، وعن عمليات الاغتيال والاختطاف والمساومة، وكل ما تحوكه السياسة والمصالح في الكواليس المظلمة، غير آبهة باللبنانيين وبحيواتهم ومصالحهم ودمائهم، فسحبت – أي الجهة الأمنية – كل النسخ المعروضة وحاولت تتبع النسخ المبيعة.
كتب صنع الله ابراهيم رواية “بيروت ..بيروت” تلك تسجيلاً لرحلة حقيقية سافر فيها إلى بيروت إبان الحرب الأهلية، عازماً على نشر كتاب له هناك، ثم اضطرته ظروف دار النشر وظروف الحرب الأهلية نفسها إلى أن يطيل المكوث هناك، وتعقّدت علاقاته واشتبكت، شأنها شأن الحياة في بلد تأكله الصراعات.
لست بصدد عرض مضمون الرواية، لكن أود الإشارة إلى أن صنع الله ابراهيم نكأ جرحاً كنّا نتعامى عن وجوده، كأنّنا لا نريد أن يذكرنا أحد بأننا قابلون للكسر والجرح والمحو حتى، فقد كشفت روايته عن هشاشة البنية الاجتماعية للبلد العربي المشهور بليبراليته المبالغ فيها، وكيف أن مصالح الدول الكبرى، وفي ركابها مصالح معسكرٍ يتبع هذا، ومعسكرٍ يتبع ذاك، لم تجد ضيراً في تمزيق بلد آمن مستقر وحليف ممتاز من أجل بلوغ غاياتها مهما كانت شريرة.
إنّ فكرة أن يقتل عدوك نفسه بنفسه ولدت هناك، في لبنان ذاك البلد الجميل المسالم، ليس عليك أن تفعل أكثر من تأريث الصراعات بين فئات المجتمع، واستحضار كل الخلافات التاريخية وعرضها على شاشة الواقع، مع كثير من الوضوح الغامض الذي يجعل بلوغ حقيقة أي مسألة خلافية أو حلها أمراً مستحيلاً.
فلسفة العدوان واضحة، اقتل أحداً واتّهم شقيقه أو ابن عمه بدمه، قل لأحدهم أن فلاناً يزعم أن دينك أكذوبة وأنك كافر، ثم عد إلى الأول وقل له الكلام نفسه لكن معكوساً..لم يختلف الطُعم أبداً، لقد جرب كل الطامعين بهذه البقعة المباركة الملعونة أن يدلّوا سنارات صيدهم بالطريقة ذاتها، كما فعلوا قبل 40 سنة، وما لبثوا أن وجدوا السمك العربي كله يتصارع ليبتلع تلك السنارات.. نحن نعيد سيناريو “الانصياد” كل مرة ولا نتعظ ولا نتعلم أي درس.
كل تفجير في العراق وفي سوريا وفي مصر وفي اليمن وفي لبنان، وفي كل أرض عربية إنما يراد به لا قتل العشرين شخصاً أو المائتين أو الألفين، بل هدفه قتل روح الوطن في جوانح أي مواطن، إشعاره بأنه في الجحيم، وجعله يائساً تستوي لديه الحياة والموت، وتقطيع أوصال المجتمع، وتحويله إلى كانتونات مغلقة وطوائف مستنفرة ضد بعضها.
تفجير بيروت الأخير حتى إن كان ناجماً عن حادث تقني، فإن هناك من تاجر فيه لكي يملأ سلاله سمكاً قصير النظر ضعيف الذاكرة.