عين العراق

164

بيان الصفدي /

ليس غريباً أن يُقال عن البصرة أنها (عين العراق) فهي ليست مدينةً كباقي المدن، لا للعراق، ولا للوطن العربي، ولا للعالم، فالبصرة مدينة عجيبة اختلط فيها التاريخ بالأسطورة، والواقع بالحلم، والعلم بالدين، فقد قُدِّر لها أن تكون مدينة أعاجيب جميلة.
عليك إذاً أن تتوقف عند شجرة آدم، فتحسُّ أن ملتقى النهرين الخالدين في شط العرب كان موضع الجنة، وهناك سترى الشجرة اليابسة الآن، لكنك ستبصر حولها أكبر غابة نخيل في العالم. أتعرفون ماذا تعني البصرة، هذه الصلبة والناعمة كدلالة اسمها؟ هي التي قدمت لنا أول الكتب المدوَّنة بعد القرآن الكريم!
قفْ في وسطها حيث يطالعك تمثال جدّنا الأول، وأبو علوم العربية كلها، الخليل بن أحمد الفراهيدي في ساحة أخذت اسمه، هو الذي من (خُصِّه) المتواضع علَّمنا اللغة والعروض والحساب والموسيقى والإملاء وعلوم الفقه والتاريخ، ألا يكفيه أنه واضع المعجم الأول في تاريخ العرب وهو معجم (العين)، وهو أستاذ سيبويه الذي نقل علمَ أستاذه لا غير، فوضع (الكتاب) مما أملى أكثره عليه، وهو أول كتاب نحوي في تاريخنا أيضاً، فكان كمدينته، ملتقى العلوم والثقافات، لكن منها يبرز وجهه الأصيل في النهاية.
وإذا تابعت السير قليلاً ستكون مع مشهد آخر، لكنه ليس منقطعاً عن سابقه، ستكون مع تمثال السياب، رائد الشعر العربي الحديث، الذي منح العراق كل ما أعطاه قلبه الجريح من كلمات أشبه بمصابيح لا تنطفئ.
في البصرة ستتعب لو لاحقت الأسماء الكبيرة التي صنعت أكثر تاريخنا الثقافي القديم والحديث، وفي كل شيء: في العلم والدين واللغة والشعر والفلسفة والتاريخ ووو…
ماذا ستسمي ومن؟
الجاحظ أم النظَّام؟ والحسن البصري أم أبا عمرو بن العلاء أم عيسى بن عمر؟ والأصمعي أم بشار بن برد أم ابن الرومي.
أسماء بلا عدد في تاريخ البصرة الحديث: محمود البريكان، محمد سعيد الصكار، ديزي الأمير، محمد خضير…وصولاً إلى عبد الكريم كاصد ومهدي محمد علي وطالب عبد العزيز.
لهذا لا تستغرب من سماحة وكرم وتواضع أهلها، إنه طبع النخلة المثقلة بعذوق تمرها لا أكثر.
منذ وُجِدتْ وهي متآلفة مع الجميع، وكأنك في مجلس الفراهيدي الذي لم يفرِّق بين جلسائه ديناً أو قومية أو فكراً، ولم يترك تلاميذه يوماً في بيته البسيط ليركض وراء المال والقصور، فترك من هذه الشيم الكثير الذي تحسه لدى أهل هذه المدينة على نحو خاص.
البصرة أشبه بحلم، بقصيدة، بأغنية، بأهزوجة (خشَّابة) ولا أستطيع أن أمشي في شطِّها وشوارعها وبين بيوتها إلَّا أن أردِّد من قصيدة كتبتها عنها ذات يوم:
هل غرِقتْ عيناكَ على مَهلٍ
في السُّمْرهْ؟
هل نامتْ في غاباتِ نخيلٍ
في سَحَرٍ يتهادَى في الخُضْرهْ؟
هل مسَّتْ كفُّكَ
كفَّ سماءٍ تستلقي فوقَ النخلٍ
كأبْهى جَرَّهْ؟
إذَّاكَ تكونُ وصلتَ البصرهْ!!
في البصرة تحيا وتموتُ
تموتُ وتحيا
أنا جَرَّبتُ الأمرَ مراراً
أنْ “أحيا وأموتَ على البصرهْ”
لقد أنشد الفراهيدي ذات يوم عن حق:
يعيش المرء في أملٍ يردِّده إلى الأبدِ
لهذا سأقول”عيني البصره” وليست عين العراق فقط!