سخونة الجو عامل للابتزاز! حين تتفق الشمس مع الموظف للضغط على المواطن

140

إياد السعيد/
وسط قيظ شوارع بغداد ولهيب شمسها الذي يكوي رؤوسنا, توقفت عند بائع الشاي لأشرب قنينة ماء تحت ظل نحيف جداً (سقف جينكو) لأقل من دقيقة، لاحظت الصبي العامل لدى هذا البائع، ويبدو أنه ابنه الصغير وهو يحمل حزمة من الماء (12قنينة) فينقلها لمرتين الى داخل إحدى دوائر التسجيل العقاري في بغداد لأننا نقف أمامها..
سألت الصبي : “ما أسرع ما نقلت حزمتين.” فأجاب :”عمو الناس ميتة من الحر جوة وصايرة لحم.” وبإشارة من والده الذي ظن أنني سأحسده على نعمة البيع هذه اختفى داخل الدائرة بسرعة وهو يحمل حزمة جديدة.. قررتُ الدخول الى هذه الدائرة التي يراجعها يومياً المئات، وربما الآلاف، واتجهت باحثاً عن الصبي، وإذا بي أمام جمهرة كثيفة تحت أشعة الشمس أمام ثلاثة شبابيك تطل منها الأجزاء الخلفية لمكيفات الهواء التي تصدح بصوتها المزعج وهوائها اللافح بوجوه المراجعين فلا يستطيع أحدٌ أن يقف خلفها أو حتى بجانبها، لكن للضرورة يتحمل المراجع ذلك من أجل إنجاز معاملته والخروج بأقل الخسائر مادياً وصحياً ونفسياً، وبصراحه لم أتحمل شدة حرارة الموقف المخزي والمحزن وكنت على بعد خمسة أمتار من الشباك الذي تزاحم عليه المراجعون وسط أرض ترابيه تخلو من أي ظل لسقف أو حتى شجرة أو جدار فخرجت مذعوراً رغم أنني مررت بها قبل سنوات..
أبو عمار (40 سنة) وهو خارج من هذا الجحيم يقول: “الله اكبر.. عمي هذا يوم المحشر، وفوق ذلك مكيفاتهم التي تشبه التنين الذي ينفث النار علينا.”
بالطبع ما ورد من وقائع وحديث أبي عمار ليس غريباً في دوائر ينهشها الفساد والرشا والإهمال، فقد بحثت بنفسي عن مرافق صحية في الدائرة وبمشقة عثرت عليها، وإذا بها خربة لا تصلح حتى لعزل الحيوان قبل ذبحه، والأغرب هي الصدمة التي يسردها لنا إياد المعموري: “عند مراجعتي مع من باعني الدار لهذه الدائرة لترويج معاملتنا اكتشفنا أن هناك من سرق مبلغ 600 ألف دينار من جيبه في التزاحم على شباك المراجعة، وكمساهمة مني اضطررت لدفع 300 ألف دينار له كمشاركة لتطييب خاطره، وحينها ذهبتُ الى الشرطي الحارس في باب الدائرة لأشكو الحالة رسمياً، وسألته كيف يحدث هذا في دائرة حكومية؟ فضحك مستهزئاً وأكد أن الأمر عادي جداً، فقبل أسبوع سرقوا من امرأة مسنّة 40 ورقة – ستة ملايين دينار!! لم أستطع الردّ عليه حقيقة لأنها صدمة ولم أتبين لحد الآن ماهو دور الإدارة والحرس تحت علم الدولة رسميا!!”
وفي مداخلة من إحدى المراجعات قالت: “يستحيل أن يسرق المراجع بل إن هناك لصوصاً من الشباب – أشارت إلى أحدهم – هل ترى ذلك الشاب الذي يتربص ويتجول بحريته بين المراجعين؟ أنا متأكدة أنه حرامي وكان يجب أن يسأله موظفو الاستعلامات عن سبب دخوله، وبالتأكيد هناك من يسنده ويحميه داخل الدائرة !!”
في عام 2012 وطبقاً لنتائج استبيان مستويات تعاطي الرشوة التي أشّرت ما نسبته 40% من المراجعين لإحدى الدوائر المرورية في بغداد، زارت لجنة من هيئة النزاهة الموقع واقترحت بعض المتغيرات على أسلوب المراجعة وتوفير بطاقات توقيتات المراجعة وأماكن الانتظار، وبعد ثلاثة أشهر فقط انخفضت نسبة دافعي الرشوة الى 3.4% .. هذا دليل على أن توفير نظام الدور والاستراحة المناسبة المكيفة كفيل بالقضاء على الابتزاز واستغلال حاجة المواطن.
في إحدى دوائر الطابو، يشكو المهندس خ. ن. من عدم توفر سيارات خاصة بفريق الكشف، ما يضطر الفريق لاستئجار سيارة خاصة ودفع مستحقاتها من قبل المواطن المستفيد من الكشف!! لكن عبد الكريم جاسم يضحك بصوت عالٍ : “أجرة السيارة لا تتجاوز الـ 25 ألف دينار بينما أنا لوحدي دفعت 150 ألفاً وغيري أربعة مواطنين سيصلهم الفريق وكل الجولة لا تستغرق أكثر من ساعة واحدة لأن كل الأراضي ضمن منطقة واحدة، وهذه طبعاً حجة مبررة ومكشوفة بشكل فاضح.”
رغم عدم ميلي للآراء الحادّة، لكن أغرب رأي سمعته في هذا الصدد من المتقاعد عباس حسن الذي قال بما يشبه التحليل الاستنتاجي، لكنه ذكي ويستوجب الوقوف عنده: “بعد صدور قرار إجازة الخمس سنوات براتب اسمي قدم العديد من الموظفين في أغلب الوزارات عليها لكي يحسنوا من وضعهم المادي لأن رواتبهم ضعيفة وليست لديهم مخصصات رغم أن بينهم من ذوي المخصصات العالية، لكن نلاحظ أن موظفي التسجيل العقاري والضريبة والدوائر التي في تماس مع المواطن لم يقدموا الى هذه الإجازة، أنا أسأل فقط لماذا؟ أليس الأجدر بالجهات الرقابية أن تدرس هذا؟!”
أعود مرة اخرى لأؤكد أن بعض الآراء تحتاج الى دراسات رقمية لكي نعرف كيف ندير دوائرنا، وبالأخص الرأي الأخير.