محمد باقر الصدر رجلٌ بقامةِ أُمة

27

الشبكة – خاص/
تخيل، أنك حينما تقرأ عنه، تشعرُ بأن أصوات الأقفال المتشددة وقضبان الجلادين تتكسر بين أضلاعك، وكأنما كان درسه العظيم الامتلاك عبودية. كيف لا وهو الثري الذي صاغ آليات التفكير العقلي ولم يمتلك شيئاً في حياته لكي لا يمتلكه ذلك الشيء، بل إنه كان يؤمن بعرفان مطلق بأن مصير الإنسان تخلقه كلمة، كلمة واحدة صادقة يمكن أن تضع الحياة كلها على جادّةٍ لا تحسب أن تطأها أبداً.
كان الشهيد محمد باقر الصدر، الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي حمل همّ الإسلام في ميادين التاريخ والفلسفة والآيديولوجيا، فالإسلام لديه هو منظومة عقلية حتى في (مدخلياتها) الإيمانية والعقائدية والغيبية، وهو المفكر الفذّ الذي أقضّ مضاجع سلاطين الجور بثباته، وأثبت ألمعيته التنويريّة للعالم المادي المنسلخ عن إنسانيته بدلائل برهانية فلسفية عن الأنسنة، وأنه لا يوجد تناقض ما بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية، فأبهر كبار الجهابذة وفلاسفة الغرب بذلك، وأسس مدرسة أصولية خاصة به تتسم بمنطقية العقل وسعة الفكر والتفكير اللامحدود، فهو من المفكرين الذين أطّروا منهجيات الاستدلال العلمي والفلسفي، وهم كانط وهيغل وفرنسيس بيكون. وقد وضع في كتابه العظيم (فلسفتنا) الأسس المنطقية للاستقراء، معتبراً أن كل دليل أو استدلال يحتاج إلى تقييم قبل الاعتماد على نتائجه، فالقياس هو سير الاستدلال من الكليات (القواعد العامة) إلى الجزئيات (التطبيقات)، وبتعبير أدق هو الاستدلال الذي تكون نتيجته أصغر من المقدمة، فإن الأساس المنطقي للقياس هو مبدأ عدم التناقض، وهو مبدأ عقلي تصديقي بديهي ينص على استحالة اجتماع النقيضين، فإذا كانت مقدمة القياس صادقة فإنه يستحيل أن تكون النتيجة كاذبة، إذ إن ذلك يلزم اجتماع النقيضين، الإثبات والنفي، لأن النتيجة محتواة في المقدمة، أي أن النتيجة جزء من المقدمة، وبالتالي فإن صدق المقدمة لازمة لصدق النتيجة.
منطلقات فلسفية عميقة لإدراك الظواهر، منحنا إياها الصدر، منها تأملية، وأخرى جمالية، لفهم الدين الإسلامي كما لم نفهمهُ من قبل، لذلك صرنا نفتقده كأبوة رمزيّة تحاول أن تعاند الموت الفيزيائي لتمنح الذاكرة صلابة الإبقاءِ عليه حيّاً، وفي لحظات الغروب الخانقة تُصبح (دللّول) قادرة على أن تُرجع أحدنا طفلاً بين كفّي أمهِ الغائبة، لذلك صرنا جميعنا نرفض فكرة رحيله البيولوجي ونصرخ بثقةِ العُشاقِ الكبار: “أينك”.
الخلود الأبديّ لعرّاب الفكر الفلسفي الفذ الشهيد محمد باقر الصدر، وأخته العلوية بنت الهدى آمنة الصدر، ولجميع الشهداء الذين قضوا نحبهم على أيدي الطاغية صدام وعصابة البعث الكافر، رحم الله شهيد الموقف والومضة المهمة في تاريخ العراق السياسي والديني، هو وكل من ذهب في درب الحرية والعدالة للإنسان، كان بحق كلمة حرة لها خلود، لكن ليست لها حدود.