معامل الطابوق.. لقمة العيش المرّة!

383

آية منصور – تصوير: يوسف مهدي /

عليك أن تحمي وجهك وتغطيه بكل ما تملك من الأوشحة، وأن تجد وسيلة لتلافي الأتربة، أما الدخان فلا خلاص لك منه، فهو يتسلل الى صدرك ويغطي جسمك بالكامل، ويهديك سعالا مستمراً.

الحياة في معامل الطابوق صعبة للغاية، ومشاهد النساء والرجال والأطفال، الذين انحنت ظهورهم مبكراً، قاسية. إنهم عمال معامل الطابوق، الذين يعيشون تحت أسوأ الظروف البيئية.
معامل بدائية
مازالت هذه المعامل تنتج ملايين الطابوق يومياً وتسوقه إلى مختلف المدن العراقية، معامل بدائية تعتمد في كثير من خطواتها على الإنسان المرهق، على الرغم من تطور المكائن وتوفر بعضها في هذه المعامل، إلا أنها ما زالت تفتقر إلى الكثير من التفاصيل التي تقلل من حجم العبء الواقع على العمال، إضافة إلى انعدام السلامة البيئية والصحية.
يقول سجاد البلداوي: “اعتدنا على أن نتنفس السموم، ونستنشق المر كل يوم، لكن ما العمل؟ هذا قدرنا.” يبدو سجاد البلداوي، غاضباً من عمله، ومنهكاً بسبب ساعات العمل التي يمضيها كل يوم، التي تمتد لأكثر من ١٦ ساعة، مقابل ٢٥ ألف دينار، يطعم بها أولاده وأمه وأباه، البالغ عددهم ثمانية أشخاص.
أبعدوا الأطفال عن النار..!
سجاد، الذي قدم من محافظة الديوانية للعمل في أحد معامل الطابوق في النهروان، يفكر بعائلته، لكنه غير قادر على تأمين السكن لحاجته المادية: “كان من الصعب تركهم جميعاً في الديوانية، فأنا مسؤول عنهم جميعاً، أولهم والدي المريض، لكني لم أكن أعلم أن الجو الملوث هنا، قد يزيد في أمراضه، لذا اضطررت لإعادته الى الديوانية مع كل عائلتي، وكل فكري معهم ولا أعلم حقاً ما علي فعله، فكمية السموم هنا لا يستطيع أن يتحملها إنسان.”
سوء معاملة
ويوضح البلداوي أن سوء الجو البيئي ليس هو السبب الوحيد الذي يجعل العامل يكره حياته ويندب حظه كل يوم، بل إنها ساعات العمل الطويلة، في مهنة تكاد تكون إحدى أصعب المهن في الحياة، بدءاً من أولى خطوات صنع الطابوق حتى تجهيزه الى المدن، إضافة إلى هذا، فإن بعض أصحاب المعامل يضطهدون العمال، بل ويستعبدونهم مقابل أجور بخسة: “يعاملوننا كعبيد، ينهروننا، ويتعاملون معنا بالمنية، فهم -وحسب أقوالهم- (أصحاب الفضل في تناول عوائلنا الطعام)، وكأن عملنا الشاق هذا، لا شيء، ولم يجعلهم يمتلكون القصور! كما أنهم، بين الفينة والأخرى، يهددوننا بعدم منحنا رواتبنا الأسبوعية، فيزداد عملنا لساعات إضافية لأخذ استحقاقنا.”
النساء لا يعملن
في رحلتنا لمعرفة عوالم معامل الطابوق، كنا شديدي البحث عن النساء العاملات، لكن، كل من صادفناهم من أصحاب المعامل، أخبرونا بعدم وجود النساء، بسبب القوانين الصارمة المتعلقة بعمل النساء والأطفال في بيئة قاسية كبيئة المعامل، لم نصدق هذا الكلام حقيقة، فقد أكد لنا بعض السكان القريبين من المعامل وجود عدد ليس بالقليل من النساء اللواتي يعملن بأجور زهيدة، ومنذ الساعة الثانية عشرة صباحاً حتى الثانية عشر ظهراً، أي بمعدل ١٢ ساعة دون توقف او استراحة، وتكون مهامهن نقل أكوام الطابوق الى المخازن، أو الكورة المخصصة لتجهيزه.
أيام صعبة وشاقة
نرجس أحمد، (٢٤ عاماً)، زوجة أحد العمال، تؤكد أنها اليوم لم تعد تعمل في المعمل، إذ توفر وقتها للبقاء مع أولادها، لكنها كانت تعمل مع أمها وأخواتها، حتى بعد زواجها وإنجابها، في هذه المهنة الصعبة: “كانت أياماً صعبة وسيئة للغاية، لم أكن أشعر أني على قيد الحياة، وكأني مجرد شخص ولد ليحمل الطابوق ويتعرض للنهر والصراخ، إذا ما وقف لحظة ليستريح، كان شرطي للزواج أن لا يرى أي من أولادي، أياً من البشاعة التي عشتها في معامل الطابوق”!
التعليم أمنيتي
لنرجس أربعة أولاد، أكبرهم توأمان يبلغان من العمر أربع سنوات، تتناوب مع أخت زوجها على رعايتهم أثناء عملها، قبل أن تقرر وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رفض عمل النساء في المعامل، كما توضح: “لم أدرس يوماً، ولا أستطيع القراءة أو الكتابة، كنت، وما زلت، أحلم بالدراسة وأن أبقى طوال حياتي وأنا ادرس، سأعوض ذلك بصغاري، وسأجعلهم يكملون دراستهم ويعملون بأية مهنة أخرى غير هذه المهنة المميتةّ!” وتضيف بحزن: “يلومنا الآخرون في سبب قبولنا بحياة صعبة وزج أولادنا معنا في مكان غير صحي، لكن ما الحل؟ أنا امرأة لا حول لها ولا قوة، في مجتمع لا يتقبل أن تعيش المرأة وحدها مع أولادها، سيكون صعباً أن أعيش بعيداً عن عمل زوجي وأعود الى واسط، وأمنعهم عنه، في الأخير لن يعرف حجم الألم إلا من عاشه، أنا -كأية أم- لا تريد لأولادها سوى حياة جيدة، لكن فرص العمل هنا شبه منعدمة، وأن تملك لقمة عيش وسط الدخان أفضل من الموت جوعاً.”
أمراض كثيرة وأجور قليلة
أما سارة (١٢عاما) فتوضح إنها اصيبت بالربو بعد عام واحد على ممارستها مهنة حمل الطابوق الى المخازن، لكنها استمرت بالعمل مع عائلتها -رغم نوبات الربو الشديدة- من أجل إعالتهم: “كنت أعمل، مذ كان عمري سبع سنوات فقط، ثم أصبت بالربو بسبب الأتربة والدخان الشديد، إذ كان علي حمل آلاف الطابوقات يومياً بين العواصف الترابية المنطلقة من المعمل، كنت أختنق وأحاول التنفس، لكنني كنت استنشق الأتربة فتزداد حالتي سوءاً، كانت أمي تصرف كل ما نحصل عليه من العمل لشراء أدويتي وعلاجي.”
استغلال العمال
تضيف سارة أنها أيضاً لا تزاول مهنة العمالة في المعمل هذه الفترة، باستثناء أخيها الذي يكبرها بعام، لكنها كانت تتعرض لسوء المعاملة وكثرة الأمراض، عدا الربو، لكنها تقاوم من أجل كسب قوتها: “كنت صغيرة جداً، وأحيانا أخطئ في بعض الأمور البسيطة والسطحية، لكن المشرف كان غالباً ما يشتمني أمام أمي التي تبقى تبكي ولا تستطيع رده لأنه قد يطردنا ونحن صغار وليس لنا أب، إذ توفي والدي بحادث سير، فلم يكن أمام والدتي سوى هذا العمل.”
وتوضح سارة أنه حتى الأجور تكون متفاوتة بين العاملين، إذ يقدمون الأقل للمرأة مقارنة بالرجال، رغم أن الارهاق يكون أكثر شدة على المرأة من الرجل: “كنت أكسب في الأسبوع ٧٥ ألف دينار مع أمي، بينما يأخذ جارنا مبلغ ١٢٠ ألفاً أسبوعياً.”
ويقطن العمال في بيوت من طابوق غير مبني بشكل سليم أو آمن، داخل المعامل، فمنازلهم داخل المعامل بين أصوات المكائن وروائح الدخان والأتربة، فيكونون شبه منقطعين عن العالم والحياة الاعتيادية.
عوائل كاملة قيد العمل
يؤكد السيد إسماعيل الساعدي، وهو أحد المواطنين الساكنين في منطقة مجاورة للمعامل أن “النساء ما زلن يعملن في هذه المعامل، والأطفال أيضاً، إذ تضطر عوائل بأكملها للعمل من أجل توفير العيش والمصاريف وتكاليف العلاج، إذ أنهم يعانون أمراضاً مستمرة، بسبب البيئة التي يقطنونها.”
ويضيف: “بالطبع يخشى غالبية أصحاب المعامل، فلا يعترفون بعمل زوجاتهم أو أطفالهم، كما يخشى آخرون من عقوبات وزارة العمل او المفتشين القادمين كل فترة، فهم لا حول ولا قوة لهم، الدولة من تتحمل مسؤوليتهم ومسؤولية سلامتهم من الأمراض، فبدلاً من أن تمنعهم من مزاولة العمل في أماكن تهدد صحتهم، فإن عليها توفير فرص عمل كريمة لهم أولاً، وليس على أحد لوم العمال أبداً، فهم ضحايا أصحاب المعامل وجشعهم، والحكومة وإهمالها.”
من جانبه، يرى الخبير البيئي أحمد المولى، أن معامل الطابوق المنتشرة في معظم محافظات العراق تسبب أضراراً خطيرة للبيئة وصحة الانسان، حتى لمن يسكنون بعيداً عنها بمسافة كيلو متر. فكيف بالعمال الذين يضطرون الى التعايش مع الأتربة والدخان على مدار أشهر وسنوات؟ يضيف: “على الحكومة أن تقوم بفرض قوانين صارمة على أصحاب المعامل، منها جلب مكائن وآلات صديقة للبيئة لا تجهد العامل، ولا تدمر صحته، فهو بالمحصلة شخص يريد العيش تحت أية ضغوط أو ظروف، واستغلال حاجته للمال من قبل أصحاب المعامل بهذه الطريقة، لهو تصرف بشع، ساعات من العمل والجهد والكارثة تفوق القدرة البشرية، دون توفير أية مستلزمات وقائية، إذ يعتمد غالبية العمال على أقمشة متهرئة لسد وتكميم أنوفهم وأعينهم، لكنها لا تفعل شيئاً.”
ماذا ستفعل الحكومة؟
ويرى المولى أن نسب التلوث الخارجة من المعامل للمحيط القريب لها، عالية جداً، إذ توجد عوائل داخل هذه المعامل، اضطرت للسكن مع رب الأسرة بعد مجيئهم من محافظات أخرى، وهم بالتالي معرضون جميعاً لخطر الإصابة بمختلف الأمراض. يضيف بقوله: “لا حل قريب، أو بعيد، لهذه الكارثة، الخلل يبدأ من الحكومات، التي لا تستطيع فرض بيئات آمنة وصحية على أصحاب المعامل، الذين هم بدورهم يتحملون جزءاً كبيراً من مسؤولية التلوث وإهمال معاملهم وجعلها استهلاكية ملوثة، فقط لأجل المال، لكنهم يستكثرون جلب مكائن تقلل من حجم التلوث او ساعات العمل الشاقة للعامل، لكن يبدو أن الجميع غير مبالين، وحده من يجري خلف رزقه في ساعات من الصراع مع الأتربة والدخان.. هو المتضرر الوحيد.”