العنف ضد الطالبات.. ثقافةٌ متجذرة في عقل مأزوم

446

آمنة الموزاني /

ما حدث لي قبل عشر سنوات في آخر مراحل الدراسة الابتدائية لا يزال يشعل النار في ذاكرتي المعطوبة ويحيلها رماداً، حينما قامت معلمة الصف بإجباري على الوقوف قرب صفيحة (الزبالة) لمجرد أنني قمت –خلسة- برفع تنورتي وطويتها لكي أظهر سيقاني ليبرز منهما شكل جواربي المزركشة. لم أكن أعلم بأنها ستكتشف أمري، ولم يكن في حسباني أبداً أنها كانت تسير خلفي أثناء مجيئي إلى المدرسة، وتراقب –بغلّ- ما فعلته بكل براءة، وليتها اكتفت بإهانتي لهذا الحد، وإنما فوجئت، بعد انتهاء الدرس الأول، باستدعائي الى غرفة المعلمات، حيث عززت العقوبة بكفها الغاضبة التي نزلت على خدي إلى درجة أن (ترچيتي) طارت من مكانها.
صدمت وبقيت (مخلوسة) وأنا أتوسلها ألا تخبر أمي، التي بدورها ستخبر أبي خوفاً من طغيانه، فهو لا يجيد غير لغة (الصفع) والسب والتهديد بطردي من البيت وحرماني من التعليم، مع أنني كنت واثقة من أن حقد المُربية (الفاضلة) لن يُشفى إلا بفضحي أمام والديّ، وهو ما حدث، وعلى إثرهِ تلقيتُ صفعة مباغتة من والدتي، أما نصيبي الدسم من الوالد فكان تأديباً وضرباً بالحزام وإنهاء العار هكذا: “بعدچ زعطوطة وعينج طلعت، من تكبرين شتسوين، ماكو مدرسة بعد.”
هذا الوصم الذي ابتلعته ظلماً وحُرمت بسببهِ من التعليمِ وأصبحتُ ربّة بيت وأنا طفلة تتدلى ضفائرها، ومن ثم بعده بسنوات تحولتُ إلى زوجة جاهلة لا يُنظر إليها غير نظرة الخادمة للعيال وماكنة إنجاب!..
ثقافة الضرب
إذن، مرة أخرى يصرخ (الضّيم) الطفولي من ملفات الاضطهاد الأسرية والتربوية ليُعري عفونة دواخلنا وانصقالها بلوثة الإجرام والبشاعة التي تسببت قبل أيام بوفاة طالبة في الصف السادس الابتدائي طردتها مديرة المدرسة من الامتحان لعدم ارتدائها الحجاب، وأخرى تلقت ضربة قاسية على رأسها أفقدتها القدرة على المشي..
تُرى ما حكاية جذور ثقافة الضرب والسلخ والتنمّر التي صارت أسلوبا في تعامل كثير من المعلمين والمعلمات مع تلاميذهم؟ ولماذا أصبحنا بحاجة إلى تفعيل قانون العقوبات للحد من سلوكيات المُربي، مع أنُه مربٍّ قبل أن يكون معلماً، وما سرّ جوقة الآباء المخدرين وفاقدي التمييز ما بين العقاب والصفح، المُصرين على تفريغ عقولهم من مفهوم العدالة القانونية الكفيلة بردع المسعورين في السلك التربوي.
حق موصومٌ بالعار
“لا أعرف، كيف نمنع المسعورين من الكف عن إيذاء الأطفال في العراق، وكيف نمنع آباءً يلفلفون قضايا اضطهاد أطفالهم ويرمونها في درج (العفو عن الذنب) لأن فضح الجاني يستلزم عاراً أكبر.”
موت طفلة
بهذا المزاج العصبي، بدأ الناشط والمُدون باسم مردان حديثه عن حوادث ضرب الصغار ممتعضاً:
“طفلة أخرى تخسر حياتها إثر نهرها بسبب عدمِ ارتداء الحجاب -كما أُشيع- وأخرى تفقد القدرة على الحركة بعد تلقيها ضربة على الرأس من قبل معلمة. وتستمر المجزرة، وتتمدد –كالعادة- حينما يجري التنازل عن القضية، فليس من الشيم الشرقية اعتبار الأطفال والنساء مهمين الى درجة رفع قضايا من أجل تحقيق العدالة لهم، كما أنهن، أي النساء، لا يستحقن حتى أن ترفع قضايا ضدهن، فوجود امرأة، قد يكون السبب المباشر في موت طفل في السجن سيجلب عاراً وأذىً لها ولأهلها أكبر من الأذى الذي يجلبه موت طفلة أنثى، ربما لو كانت الطفلة ضحية هذه الحادثة ذكراً، لكان في الموضوع حديث آخر. الحقيقةً أني صرت شبه جازمٍ، ومن حيث المبدأ، أن جرائم المعلمين والمعلمات في العراق، من ناحية العدد والخطورة، لا تتطلب فقط قانوناً خاصاً بحق الطفولة، وإنما تتطلب تدخلاً دولياً، وحملات إغاثة، وعمليات إنقاذ جماعية، واستثناءات خاصة بقوانين اللجوء، لأن العائلة التي لديها طفل من العراق يُفترض قبول لجوئها في كل مكان في العالم بسبب الخطر المحدق بطفلها!”
موروث تربوي
من جانبها، أرجعت مديرة (مدرسة النهرين الأهلية) عاصمة مجيد جذور العنف التربوي وما أفرزه داخل المدارس، قائلة:
“العُنف الذي ينتشر في المدارس في وقتنا الحاضر هو نتاج طبيعي لموروث التعنيف التربوي، الذي صار منهجاً دراسياً داخل عقول التربويين، أضيفي له العشائرية التي دست أنفها في كل شيء، ودخلت مدارسنا إلى درجة أن أي توجيه بضبط سلوك الطالب، او تهذيبه، لا غرابة أن تفاجَئي معه بعشيرته التي تُحيل الأمر إلى طائلة الإساءة الشخصية و(تگاومنا)، فعلى الرغم من المناداة بحقوق الإنسان والطفل، وانتشار الأساليب الحديثة في التعامل وطرائق التدريس، إلا أن أساس العنف له وجهان سيئان جداً: الأول عنف الطلبة وأولياء أمورهم ضد المعلمين ولأتفه الأسباب، وعنف آخر من المعلمين التربويين ضد الطلبة الذين هم أمانة في أعناقهم، فهم مسؤولون عن التربية قبل التعليم. إذن، المهمة مشتركة، والتخلف في مدارسنا، ومن جميع الأطراف، يحتاج جهوداً جبارة لتأهيل كل الأطراف التربوية والوزارية والنقابية.. وقبلهم أهالي الطلاب”.
القانون خيرُ مؤدبٍ
“يزرعون في رأس الطفل ثقافة التبليغ الفوري للشرطة إذا ما تعرض لأيِ ضرب، أو حتى باللمس أو الصراخ من قبل والديه، ويلزمون المدارس والمستشفيات بالإبلاغ عن أية حالة تعنيف مشكوك في أمرها، وإذا ما ثبت بالدليل أن أحد الوالدين هو الجاني، أو كليهما، فيتم عزلهما ومقاضاتهما قانونياً بعد سحب الطفل للعيش مع عائلة سويدية”..
هذا ما يحدث لو أن معلماً، أو أباً، أو أمّاً، قام بتعنيف او ضرب طفله أو ألزمهُ بسلوك إجباري، بحسبِ ما أفادتنا به التربوية العراقية المُقيمة في مدينة غوتنبورغ، ثاني أكبر مدن السويد، عبير اللامي، مُكملة بامتعاض :
“القانون هو خير مؤدب ومؤهل لكل مختل نفسي ومأزوم، كانت لدينا طفلة من أفغانستان، بلّغت السوسيال عن تعنيفها بالإجبار والضرب على ارتداء الحجاب المبكر، ما تسبب لها بأزمة نفسية وتراجع ملحوظ في مستواها العلمي، فسُحبت من العائلة بعد التحقق من الأمر، وأُحيلت إلى عائلة سويدية وبقيت هناك قرابة سنة، شعَرت خلالها بالاستقرار النفسي وبانتهاء الخطر، بعدها هي من طلبت العودة إلى عائلتها، ولم تجد أية ممانعة من السوسيال، علماً أن السوشيال، طوال فترة غيابها، كان يقوم بتأهيل أبويها نفسياً واجتماعياً لتقبّل الموضوع واحترام حريتها، لذلك أنا استغرب مما أسمعهُ عن عنف المعلمين والمدرسين، وما يسببه من تشوهات وموت وأذى نفسي، وكيف يمكن لمربٍّ مؤتمن على طفل أن يواصل معهُ منهجية الضرب والصراخ والتلقين القسري لموروثاته وأفكاره المرفوضة إنسانياً”.