(جنّي) يصمم (أوبرا) لبغداد في جزيرة أم الخنازير!

265

جمال العتّابي/
استدعاه الملك فيصل الثاني لتصميم مركز ثقافي على ضفاف دجلة في بغداد، كما صرح حينذاك المهندس الأميركي (رايت)، ذاكراً أنه ذاهب لتصميم دار أوبرا، حيث توجد جذور الحضارة في العراق، كان رايت قد رفض تصميم أوبرا مدينة نيويورك – حلم أي معماري في العالم – معتذراً بأنه سوف يصمم دار أوبرا حيث بدء الحضارات في العالم.
حينها صدرت الصحف الأميركية بالعناوين العريضة: (لقد تلبّس الجنّ فرانك لويد رايت)، وآخرون منحوه كنية (جنّي بغداد)، ولعلّ أهم تعليق على ذلك هو ما ذكرته (الواشنطن بوست) تحت عنوان: (جنّي في مصباح معماري)…
حزم رايت أمره وتوجّه إلى بغداد، وقبل وصول طائرته إلى مطار بغداد شاهد جزيرة أم الخنازير، وسط الماء، تحيط بها بساتين نخيل الكرادة من كل صوب، في انعطافة للنهر الذي يمشي في ظل غيمة، كأنه يطوي عن عيون الناس حلمه!
من هنا بدأت الحكاية، إذ منذ وصول رايت العاصمة بغداد في الأسبوع الأخير من حزيران 1957، كان في انتظاره المعماري نزار، نجل رئيس الوزراء حينذاك جودت الأيوبي، الذي رافقه الى أرقى فنادق العاصمة، (الخيام)، الذي كان قد افتتح تواً مع صالة سينما الخيام.
يعدّه ذوو الاختصاص من أكثر المهندسين المعماريين شهرة، وأنجحهم من خلال أعماله الكثيرة المنجزة، التي اتسمت بالبساطة والجمال، وهو الأسلوب الذي أسس له واستخدمه في العمارة الأميركية، على نقيض العمارة المعقدة التي سادت أوربا. صمم رايت أكثر من 1100 مبنى خلال حياته، ما يقارب الثلث منها خلال العقد الأخير من عمره، وهو دليل طاقة وحيوية وإصرار ومثابرة وحب كبير لعمله، استمر على مدى حياته.
ولد رايت في إحدى الولايات الأميركية عام 1867، وتوفي في 1959، أنجز خلالها أعمالاً معمارية ترشحت منها 8 أعمال رئيسة الى قائمة التراث العالمي الخاصة بمنظمة اليونسكو، في أول اعتراف للمنظمة بالهندسة الأمريكية الحديثة، ينسب له أسلوبه المعماري الخاص المسمّى (أسلوب البراري)، الذي يعتمد (المحيط الطبيعي) في تصميم المبنى، فاشتهر بمدرسته المعمارية وأعماله التي تشهد على ثراء منجزه، بل وعمق فهمه لفلسفة عصر يموج بالتناقضات وسرعة التغيير، فضلاً عن ذلك أصدر رايت 20 كتاباً، ونشر العديد من المقالات، وكان محاضراً في الجامعات الاميركية والأوربية، مواكباً لظواهر الحداثة في العمارة مستخدماً تقنيات عدة في البناء.
تجول رايت في أنحاء بغداد، واطّلع آنذاك على بعض معالمها التاريخية الشاخصة كالقصر العباسي وخان مرجان والمدرسة المستنصرية، وعاش لحظات من الزمن في ظلال المدينة، فأعجب بآثارها أيما إعجاب بعد زيارته المتحف العراقي، ثم وقف على ما أنجزه المعماري العراقي الحديث من أعمال (آنذاك) ليعقد المقارنة بين روائع الماضي ومنجزات الحاضر، وخلص إلى آراء جديرة بالتأمل والدراسة والاستقصاء ضمّنها انطباعاته التي ألقاها في جمعية المهندسين.
تحدث يومذاك بأسلوب كان يجمع بين اللمحة الذكية للفنان والروح النقدية للأديب:
“لقد قرأت قصص ألف ليلة وليلة، وعلق منها في ذهني الكثير من الصور، بل حفظتها، إن هذا ساعدني في حفظ جمال التقاليد الشرقية، إنكم تملكون متحفاً رائعاً هنا.. متحفاً يضم مختلف الحضارات، ليس لدى الآخرين ما لديكم من حضارة، إنها حضارة حيّة وملهمة بقيمها الروحية المتوارثة، إن الغرب خالٍ منها، فلا تنتظروا أن يقدمها لكم في الفن، الأفكار أعظم وأقوى شيء في العالم، لذا أصبح من المستحيل إبدال الأفكار – بالمال، يجب أن تأخذوا إلهامكم من مصدر آخر أكثر غنى وأخصب معطيات. إن هذا المصدر موجود في بلادكم، لكنكم لا تعرفون أنه قريب منكم بشكل لا يمكن تصوره.”
التقى رايت ضياء جعفر، رئيس مجلس الإعمار، وناقش مشروع الأوبرا مع أعضاء المجلس، كما التقى المعماريين والفنانين العراقيين في النادي الأولمبي على هامش معرض أقامته جمعية التشكيليين العراقيين التي كان يرأسها المعماري محمد مكية.
حظي رايت بلقاءين مع الملك فيصل الثاني، أعرب له فيهما عن عدم صلاحية المكان المقترح لدار الأوبرا، واقترح بديلاً عنه جزيرة أم الخنازير (الأعراس) حالياً، انطلق بتصاميمه للموقع من اعتماد الحدائق كمظهر أساس في التصميم، ليوحي بسمة الجزيرة كونها (جنة عدن)، جعل دار الأوبرا في النهاية الجنوبية من الجزيرة، على تلّة محاطة بالماء والبساتين، وصالة تتسع يمكن توسيعها لتستوعب 7000 مشاهد، يبرز أعلى المبنى تمثال لعلاء الدين يحمل مصباحه السحري.
لم تكن جامعة بغداد من بين المهام التصميمية الموكلة لرايت، لكنه قدّم تصميماً متكاملاً لها، وحدّد مكانها في الجادرية قبالة (جزيرة عدن) الى الجهة الغربية من ضفة النهر، إذ جرى ربطها بالجزيرة بجسرٍ عالٍ، وأعطى لقاعدة الجامعة شكل الزقورة لكن بشكل دائري، كما كانت شائعة في القرون الإسلامية الأولى.
إلى جانبه، قدّم تصميماً آخر لبناية البريد المركزي في شارع الرشيد (السنك)، استغرق إنجازه 8 أشهر. حمل رايت مخططاته تلك كلها الى مجلس الإعمار بداية أيار 1958، فرحاً، فخوراً بما أنجز..
إلا أن سقوط العهد الملكي في 14 تموز 1958 وضع نهاية حزينة لهذا الجهد، كما توفي رايت في العام التالي (مايس 1959)، وانصرفت حكومة الجمهورية الى مشاريع عمرانية أخرى، لم يكن مشروع الأوبرا من بين أولوياتها، أو أنها وجدت في كلف إنجازه بذخاً غير مبرر، (قدرت بمليون ونصف المليون دولار)، فركنته في أدراج وزارة الإعمار، وأهملته الحكومات المتعاقبة نهائياً.
منذ ذلك التاريخ، ومشروع الأوبرا ظل حلماً صعب التحقيق، يبدو أن حسرة (الجنّي) على ضياع المشروع تمتد عبر العصور، مرّ مغول واشتد صهيل الحروب، مرّت أزمنة قحط، وتناثر الوطن في أبهاء الريح في أزمان أخرى، ثم انتفخت الجيوب، وتلاحقت لاهثة أنفاس الحكومات والساسة لتغرف من بئر النفط حتى الأعماق، بينما (حُفر) مشروع الأوبرا المزعوم*، على ضفة نهر دجلة اليمنى، قرب فندق (المنصور ميليا)، ما زالت تصيح وتستريح: ليتها وفتْ لنا الأيام ما كنا انتظرناه طويلاً، سيفيض النهر بالماء وأغرق!!
………………..
* الميزانية المخصصة للمشروع (المصادق عليها) بلغت أكثر من 150 مليار دينار عراقي.