مظفر النوّاب..فن أن تكون حيّاً دائماً

214

د. نبيل جاسم/

ثمّة شيءٌ غريبٌ متعلّق بالشاعر الكبير مظفّر النواب (1934 – 2022)وربّما أحدثت ظروفُ ما بعد وفاته، وحتى غيبوبته الطويلة، تأمّلاً مكثّفاً بتجربته، وهذا ما يحدثُ عادة حين يغيب المبدع فيزيائياً وجسدياً، ولا يبقى منه سوى ما أنجز، ليتم تلقيه بهدوء، وتفكيك، ومحاولة فهم، بعيداً عن الميل العاطفي والتأثير الذي يحدثه وجود الشخص على قيد الحياة.
وفي الواقع، هو ليس شيئاً غريباً واحداً، وإنما عددٌ كبيرٌ من اختلالات النسق الذي نعرفه في الشعر العراقي، تمرّداً واختلافاً، حتى ليبدو النوّاب، لوحده، حجراً غريباً في هذا الجدار اللامع الذي اسمه “الشعر العراقي”.
ولد مظفّر النوّاب في الكاظمية، لعائلة برجوازية، كان البيانو الكبير يحتلّ جزءاً من منزلها، والنعومة تظلّل البيت، لكن خيط العدالة سحبه من القاموس البغدادي المغناج ليكون على صلة بالطين، والفقراء، والمقتولين ظلماً، على يد الإقطاع، ثم على يد قمع الأنظمة السياسيّة، ولعلّ تلك أغرب صفة بمظفر النوّاب، أن يستبدل شاعر ما أسلوبه وقاموسه بشكل تام، بعيداً عن اللهجة الأم، في وقتٍ يتمسّك كلّ شعراء العامية بانتمائهم اللهجيّ، فمن نبرة واحدة ستعرفُ أنّ عبد الرحمن الأبنودي صعيدي، وأنّ صلاح جاهين من أسرة مدنيّة من القاهرة، ومن شطر زهيري واحد ستعرف أن فلاناً من الفرات الأوسط، أو من أعالي الشرقاط، لكنّ النوّاب هو الشاعر الوحيد الذي تتخيّل نصّه من الجنوب، من أقاصيه، وهو لم يعش فيه إلاّ فترات قليلة!
ظلّ النوّاب مثل نهر هادئ، يسيل في كلّ شيء، ويترك خضرةً واضحة لكل ذي عينين، لكن الانقلابة الكبرى التي أحدثها في جسد القصيدة العامية، بعد نشر قصيدته (للريل وحمد)، كانت تماماً تشبه لحظة بدر شاكر السياب، التي اجترح فيها وجوداً آخر للشعر العربيّ المعاصر، فكانت تلك القصيدة تحوّلاً أولاً على المستوى الشكلي – العَروضي، ثمّ البنائيّ، والخِطابي، إذ كان عن لسان امرأة (ولكم أن تتخيّلوا خطورة المغامرة في تلك السنوات أن يستعير شاعر لسان امرأة بكل عواطفها)، وليس انتهاءً بأنها نصّ شعريّ عاميّ يخضع للتأويل، مثله مثل أيّ نصّ فصيح آخر!
ثم توالت المحطّات التي لا تشبه إلا مظفر النوّاب وحده، صاحب القصيدة التي منعت كثيرين من كتابة “البراءة” من انتمائهم السياسي، الهارب من السجن بعملية أسطورية، الذي يتداولون صوته مثل منشور خطر، ثم الغيمة التي غيّرت لونها من المحليّة إلى العالمية، لتمطر على كلّ الناطقين بالعربيّة شِعراً فصيحاً، كان يلهب الناس “من المحيط إلى الخليج” كما يقولون، غضباً وحزناً، غناءً وهجاءً، تغزّلاً وشتيمةً، بناءً فنّياً وسرداً شِعرياً – سينمائياً، ليكون أشبه بمكعّب ملوّن، بآلاف الأوجه.
شكّل النوّاب ظاهرة غريبة دوماً، لا تشبه النسق المُتّبع، فلا قصائده تشبه قصائد مجايليه، ولا حتى الأغاني التي يكتبها، أو بمعنى أدق: القصائد التي تُلحَّن، تُشبه أغاني الآخرين، بل حتى رسوماته، وهو ذو أثر في التشكيل العراقي إلى حدٍ ما، كانت لا تشبه إلاّ عوالمه، وتقنياته، وعالمه البريء الطفل من جهة، والقاسي من جهة ثانية.
عاش النوّاب عدّة حيوات، ثمّ انتشر وأفاض على عدّة فنون، ومساحات تأريخية منها وجغرافيّة، وأثّر فيها جميعاً، ليعلّمنا جسده المُنهك الذي انتصر عليه الموت أنّه لم ينتصر تماماً، وأن المبدع إن أخلص للناس ولفنّه ووجوده الإبداعي سيكونُ حيّاً على الدوام، ظاهرة لا تشبه إلا نفسها، وتغري الآخرين بتقليدها، لكنها مثل العدد صفر في المعادلات الرياضية: فريدٌ، لا يتكرر، ولا يشبه سوى نفسه أبداً.