الثقافة العربية الاسلامية تناولته بأقلام كبار الفقهاء الجسد وطبائعه

704

د.بشرى البستاني/
لعل من الموضوعية القول ان معظم الثقافات الإنسانية قد تعاملت مع الجسد الأنثوي عبر العصور بارتياب سواء باسم الأديان أم الأعراف، لكن لابد من التأكيد ان الجسد الحر المتحرر من القهر والقيد من شأنه أن يتعامل مع الوجود بلغة تمتاز عن اللغة الاعتيادية بتفردها وعنفوانها.
فالكتابة عن الجسد وطبائعه وتوجهاته وان كانت محظورة اليوم أو شبه محرمة من قبل السلطة الثَّقافية والدينية والمجتمعية لأسباب استلابية شتى، إلا إن الثَّقافة العربية الإسلامية قد عرفت عبر القرون السبعة من حضورها الحضاري ألوانا من الكتابة عن الجسد والجنس بأقلام كبار الفقهاء والعلماء والمفسرين والمتصوفة والنقاد أمثال السيوطي والجاحظ والصميـري والنفراوي والتيفاشي وابن حزم الأندلسي وغيـرهم، كما عرفت في شعر الشِّعراء ولا سيما المتصوفة أجمل النّصوص وأرقاها، لكن هذه الكتابات لم تحظ بالاهتمام النَّقدي وبالدرس الَّذي تستحق لتؤكد أن اللغة العربية وأدبها قادران على استيعاب فعل الجسد واحتواء نبضه وهواجسه وخلجاته وشموليته في التماس مع العالم والأشياء. إن الجسد ولاسيما الأنثوي كان في ظل الانفتاح الحضاري الإسلامي يتمتع بحضوره انطلاقا من موقف متفهم لحقيقة الدين، ذلك أن الجسد ليس ملكا لأحد، ليس ملك الرَّجل ولا المرأة ولا ملك السُّلطة السِّياسية التي أعطت نفسها حق تعذيبه وممارسة العنف عليه بالعمل الشَّاق أو التَّعذيب، أو بتغييبه وتصفيته، بل هو ملك الله الَّذي كرمه سبحانه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ.. الإسراء:70) (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.. التين: 4).

واجب احترام الجسد وصونه
ولذلك يتوجَّب على الناس والسَّاسة والفقهاء والمفكرين والمتنفذين بالأمر احترامه ورعايته وصونه وتأمين حقوقه بكل ما هو جليل، وليس احتكاره وسجنه أو ابتذاله واستغلاله والتهافت عليه، بينما يصيب الجسد الأنثوي اليوم قهرٌ سياسي واستغلال إعلامي وثقافي واقتصادي واجتماعي، ولا سيما في حقول الدعاية والإعلان والإعلام، أما في الأدب العربي الحديث فكثيـراً ما يضيع جسد المرأة في القصص والروايات بين التهشيم والتهميش، التهشيم حين يكون عرضة للانتهاكات والسجن والعنف والتسخيـر لأدلجة المؤدلجين أو مرمى للشهوات، فهي جسد بلا روح حينما لا يحسب لمشاعرها وقرارها اي حساب محكومة بالأعراف العشائرية وأعباء التَّخلف، ويصل العنف قمته إذ يمارس ضدها الوأد المعاصر بأشكال شتى، وحيث يسري عليها التهميش حينما تظل ضمن ممتلكات الذكور ووصايتهم. وقليل منهن هو النموذج المتماسك الَّذي يمتلك قراره ويدافع عن هذا القرار بوعي ومسؤولية وإرادة.

المرأة تجنبت البوح بمكنوناته
إن المبدعة العربية باعتقادي وحتى هذه اللحظة لم تستطع -عموماً- أن تبوح بما تحس مضطرة على الصمت غيـر مختارة، ولا هي عبـرت عن مكنونات هواجسها فيما يخص جسدها، ولا كتبت عن آلامها فيه، خوفا مما حولها من سلطة الحجب، فضلاً عن أن معظم أعضائها مغيب في شعرها إلا فيما ندر، بل على العكس قد تتحول أعضاء جسدها الجمالية إلى فضاء للتعبيـر عن الألم والحزن الناتجين عن الحرمان من الحياة بكل مجالاتها، وعن سوء الواقع، وحجر الكلمة وغياب الحرية المشروعة، وفقدان الفضاءات المتاحة للرجل، ولعل ذلك عائد – فضلاً عن الحجر الأسري – إلى القهر السّياسي الَّذي يسعى دوماً إلى الحفاظ على منظومات التَّخلف لإدامة الجهل والأمية الأبجدية والحضارية التي تؤمّن وجوده وتديم استمراريته، وإلى قسوة ردود الأفعال المجتمعية المحيطة بالمرأة العربية وهيمنة القيم القبلية والأعراف التي ما زالت تسيطر على الحياة بمجملها، فضلا عن تخلف القوانين المتعلقة بالمرأة وعملها الاقتصادي وفقدان المرونة في منحها حرية اختيار زمن عملها وفي إطلاق إجازاتها التي تتطلبها الأمومة، وضياع حقها في اعتبار العمل المنزلي مهنة تثاب عليها من قبل الدَّولة كما يحصل في الدول والقوانين التَّقدمية المنصفة في العالم المُتحضر، كل ذلك يمنعها من ممارسة حقها في التأمل والتفكير بحقوقها في الحياة وفي أهمية التعبير عن ذاتها ومشاعرها، يُضاف لذلك قضية خطرة هي العمل على أدلجة الدين في وطننا العربي والعالم، والانعطاف به عن رحابته وإنسانيته وانفتاحه نحو أصولية ضيقة شكلت سلطة حواجز معيقة أمام المرأة بالذَّات وعملت على تضييق فضاء حريتها وانحسار حقوقها الشَّخصية انطلاقا من كونها المسؤولة الأولى ليس عن شرفها وفعلها حسب، بل هي المسؤولة كليا عن شرف عائلتها وعشيـرتها ومن تبعهم إلى يوم الدين، متناسين أن قيمة الشرف تعني النبل، وأن الرجل مسؤول عن سلامة هذه القيمة مسؤولية المرأة تماما؛ من هنا كثيـراً ما تغيب أحاسيس المرأة وقضاياها الشَّخصية والنَّفسية ووجعها الأنثوي.

الجسد والتطرف الديني
إن التَّطرف الديني الَّذي تعيشه أوطاننا اليوم والذي ينظر إلى جسد الأنثى نظرة متداخلة بالخطيئة ليس هو من الدين القيّم في شيء، وان المهيمن في أوطاننا للأسف ليس هو الدين الحقّ بل العرف، ولا هو التسامح وسعة الرؤيا وروح العدل والعدالة بل التأزم والتوتر، مع أن من رحمة الله سبحانه أن الإباحة في الإسلام هي الأصل بينما المحرم مقيد ومحصور في أمور محددة، ومن أكبـر مظاهر الرحمة على البشر أجمعين هو التوحيد الخالص لانه تشريف للأنسان بعلاقة مباشرة مع الله وحده، ويحفظ حقوقهم ويحمي كرامتهم ومصالحهم جميعا، فالاسلام يوفر السلام والملاذ لا ليملأ حياتهم بالرعب من العقوبات على كل صغيـرة أو غفلة. إن الإيمان بالله لم يكن لمجرد أداء ممارسات تحولت عند كثيـر من الناس إلى عادات نمطية أو حفظ وترديد سلسلة من ألوان الثواب والعقاب على أهمية وعي الحقوق والواجبات، بل هو أهم من ذلك وأعمق أثرا ودلالات، فحضور الله سبحانه في أرواحنا وفي حياتنا وسلوكنا ووجودنا هو الَّذي يضفي على الحياة معناها وعلى الكون دلالته، من دون هذا المعنى تتحول الحياة إلى عبث لا يستحق أن يُعاش.