بنت المعيدي نهر غامض
أحمد خلف /
قبل أيام أردت الكتابة عن موضوع أعتبره من الموضوعات التي تلازم الذاكرة, لأنه عاش معي سنوات طفولتي وفتوتي, وظل يزورني بين حين وآخر ثم يغيب عني فترة من الزمن ليعود ثانية:
تلك هي صورة بنت المعيدي, التي ارتبطت مع سيل من أحلامنا, وكانت الصورة نموذجا استثنائيا لأيامنا الضائعة في نهر الزمن الذي جرف في طريقه الكثير من ذكريات طفولتنا وشبابنا أيضا, وأي نموذج من نماذج اشتغالنا الثقافي حين نقرر تناوله في مقال او قراءة خاصة لابد له أن ينطوي على خصيصة محددة, أعني امتيازه في اختيارنا له دون غيره في التناول, ونموذجنا هذا (بنت المعيدي)، دخل بيوت العديد من العراقيين في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات, كنا نحتفظ بصورتها منذ أدركنا معنى الصور المعلقة على الجدار ولماذا يصر صاحب البيت على الاحتفاظ بها, أن نموذج الصورة المتفردة في خصوصية التسمية وتبريرها من بين الصور الأخرى يرتبط في المثال الخاص لصاحب الصورة, وربما تمثل لديه المثال المفقود أو الحلم المتلاشي في الغياب المفاجئ, لذا تعلق الصور على الجدران لترتبط مع الذاكرة في حوار دائم يكون مسعى صاحب الصورة الفوز بذلك المثال حتى لو كان الأمر ينتهي في المخيلة التي تنتج المزيد من الصور المثلى, ولكن بعد تطور وسائل الطباعة وفن التصوير, خصوصا في العراق كثرت الصور وتعدد النموذج وتغيرت صورة المثال المفقود الى صور ونماذج شتى وأصبحت عارضة الأزياء والمغنية والممثلة (الجميلات الفاتنات) نماذج متباينة للعديد من الحالمين بالفوز وحيازة الصورة النموذج, ونموذجي في الصورة كانت بنت المعيدي الى وقت قريب ويطلق عليها في بعض الأدبيات: موناليزا العراق أو جيوكندا العرب ويعتقد أنها من بادية السماوة في الأصل, وهناك من يرجح أن تكون هذه الفتاة المدهشة بجمالها الصارخ من احدى محافظات الفرات الأوسط واختلقت لها قصة في سابق الأيام اسوة بالصور النادرة التي تحتل لها في الذاكرة الجمعية مكانة استثنائية ويغدو من الصعب تقبل الصورة من دون حكاية.. والقصة التي ألصقت ببنت المعيدي (كما نعتقد) هي أنها احدى جميلات قلعة كركوك الشهيرة وقد تعلق بجمالها ضابط انكليزي في ثلاثينات القرن الماضي, احبها وأخذها معه الى انكلترا لتعيش معه هناك..
لكن ما عطلني عن الكتابة عن هذا المثال للجمال المعلن في الصورة الخالدة, هو التفجير الاجرامي في مدينة الصدر مؤخرا.. لماذا هكذا يفعل القدر فعلته مع العراقيين دائما؟ لماذا كل هذا الحقد الأسود على العراق دولة وشعبا؟ تعددت الذرائع والموت واحد.. تلك الساعة تركتُ الكتابة عن بنت المعيدي واتخذتُ مكاني أمام الشاشة الصغيرة التي كانت تعرض فيلما شاهدته للمرة الثالثة ولم اسأم منه, أنه / نهر غامض.. هنا لا أريد الكتابة عن الفيلم مع أنه يستحق الإطراء لولا ذكر عبارة أو جملة واحدة تذكر أبطال الفيلم بالجحيم: ــ هل تريد الذهاب الى العراق؟ هكذا اذن ليس أفضل من عبارة التهديد, وقد قيلت بنوع من سخرية لاذعة, هذه العبارة التي تجعل البطل الثاني يرعوي عن أفعاله أنه التهديد بإرساله الى الجحيم..
هل تصح الكتابة عن بنت المعيدي مبررة الآن؟ نعم أرى أن من الضروري أن نعد لكل شيء عدته وربما ليس عدلا أن نغمط حقوقنا في رؤيتنا للأشياء عن قرب تلك الصورة التي تمنيناها أو اردنا لها أن تكون حبيبتنا الجميلة؟ بنت المعيدي هي الأنموذج الأمثل لأمهاتنا وهن يتبارين معها, وأيضا المثال المعروف بين أبناء جيلنا في مطلع الستينات من القرن الماضي, كلما نظرتُ اليها يخيل لي أن لا جمال آسر سوى الجمال الماثل أمامي في الصورة تلك, صورة فتاة ذات ملامح ريفية نوعا ما تنظر جانبا, غير أنك تشعر بانثيال النظرات عليك تحس كأنك أنت من عاقبها أو عافها, ولكن لماذا سميت بنت المعيدي ومن اطلق عليها هذا الاسم الذرائعي العجيب؟ , لنلاحظ الاستماتة في ابعاد السوء عن المدينة ولتلقى تبعات الفعل الغامض على المعدان والأفضل أن تحدد سمات الجاني بالمعيدي, أن القصة التي رويت لنا تقول أنها احبت وهربت من ديار أهلها المعدان مع الحبيب, أي أنها جنت على أهلها بالفعل المسيء للأهل والعشيرة, هل ثمة علاقة سردية غامضة بين الهرب مع الحبيب وقصة الضابط الانكليزي وذهابها معه الى لندن؟ أعتقد أن فبركةً لقصةٍ ما قد دبرت في ليل ضد الفتاة التي احسب أن ثمة فنانا بدائيا قد رسمها للتباهي بمعرفته بالجمال ولكن الحكاية نمت وكبرت بحيث أصبح من الضروري العثور على اطار حكائي مناسب ومقبول من الآخرين، فما كان الا المعيدي وحده سيتحمل تبعة ذلك؟ تماما كما حصل في الفيلم الأمريكي ــ نهر غامض ـ الذي يذكر البطل خصمه بإرساله الى (الجحيم) العراق وقصة الفيلم لا علاقة لها بالعراق لا من قريب ولا من بعيد، أن جوهر نهر غامض يناقش فكرة الاحساس بالذنب أو الخطيئة حسب مفهوم الدين المسيحي في معالجة الخطأ أو الجرم, فالبطل ينتقم من قاتل ابنته (كاتي) بناءً على اعتراف الأخير, ولكن الصدمة المروعة تأتي من رجل الشرطة صديق الأب المفجوع حين اخبره أن التحقيقات القت القبض على القاتلين وقد اعترفوا انهم ارادوا تخويف (كاتي) ولكنها هربت منهم، ما دفعهم الى اطلاق النار عليها نتيجة الخوف من فضحها لهم.. هنا تنتهي قصة فيلم (نهر غامض) التي تكبل الأب بإحساسه بذنبه لأنه تسرع في انتقامه من رجل بريء.. من جانبي أن المخرج أو كاتب السيناريو قد حشر تلك العبارة التي اعادت لي ما حدث فعلا في مدينة الصدر من جحيم مروّع وأن أرض العراق ما عادت تنتج الا الجحيم وبإدارة مخرج سيئ لا يجيد سوى القتل والدمار فقط..