في النص الأدبي الغموض عنصر إثارة أم تعتيم وإيهام؟
رجاء الشجيري/
تتسع دائرة الجدل وتتباين الآراء، بشأن ظاهرة الغموض في الأدب التي تشغل حيزا مهما في أغلب النتاجات الإبداعية بمختلف حقولها، فثمة من يرى ضرورة وجود مسحة الغموض في النص الأدبي، ويعدها عنصرا يضفي قيمة جمالية للمنجز الأدبي، انطلاقا من أن أمتع النصوص تلك التي تبقي جزءا منها مواربا خفيا، لتضحى قابلة لتعدد القراءات والتأويلات، إلا أن البعض الآخر يقف على الضد من هذه الظاهرة، بدعوى أنها تعد قطيعة بين النص والمتلقي، وبرأيهم كلما زاد الايغال في التشفير والرمز والغموض خف بريق الإبداع في النص،
“مجلة الشبكة” أجرت استطلاعا للتعرف على وجهات نظر عدد من النقاد والأدباء بشأن هذه الظاهرة، وخرجت بهذه الحصيلة من الرؤى:
الحركة الرومانسية
الناقد والكاتب شكيب كاظم رجح بداية هذه الظاهرة مع ظهور الحركة الرومانسية بقوله: اطلت ظاهرة الغموض في الأدب والشعر خاصة، منذ أن ظهرت الحركة الرومانسية، ولاسيما في فرنسا بدايات القرن التاسع، ولعلها كانت من نتائج الثورة الفرنسية سنة 1789، وما رافقها من قسوة واعدام بالجيلوتين، فانكفأ الأدب نحو الذاتية والفردية، واعلان الأنا في مواجهة النحن، ولقد تأثر أدباؤنا بهذه الحركة ونتائجها، لاسيما بعد خيبة الناس من تموز 1958، فتوجه الأدباء نحو الرمز والغموض، لمداواة جراحاتهم، فضلا عن الخوف القابع عند اسلات أقلامهم من المخبر السري الذي يحصي الحركات والسكنات، فحصلت القطيعة- للأسف- بين المبدع والمتلقي، الذي يريد نصا قريبا من فهمه وذائقته، وهو ما نلمسه في قلة مبيعات الشعر، بل أوغل بعض الشعراء في التعميه والايهام، حتى صرح بعضهم بأني أكتب الشعر لذاتي، وأنا القارئ الأول لشعري!!
وأصبح الوضوح يوصف بالمباشرة والتقريرية، وأمسى سبة في عرف بعضهم، ما يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى الكتابة، اذا أصبحت أسس الكتابة الثلاثة الشاعر، المتلقي، النص، تحيا في قارات منعزلة؟
ولعل ما زاد في ظاهرة الغموض، تصاعد نجم قصيدة النثر، حيث الايغال في الرمز والايهام دليل شاعرية ثرة! وما هو الا دليل شاعرية ناضبة غاربة، أن كانت ثمة شاعرية!!
حين يمسي الغموض حصانة
ومن البصرة القاص باسم شريف يقول: لقد القت ظاهرة الغموض والإيغال فيه بظلالها على الكثير من حقول الإبداع، وأصبحت الأزمة لدى الكثير من الكتاب والفنانين وبشتى اشتغالاتهم الإبداعية، لما تمثله من ضرورة كبرى لا غنى عنها، حتى أضحت ظاهرة يجب التوقف عندها طويلا. للغموض أسباب كثيرة وسأركز هنا – على المجال الأدبي حصرا- منها ما هو بلاغي ونحوي ومنها ما هو له صلة بالكاتب نفسه ومنجزه. لذا سأتناول الجانب الأخير المتعلق بالكاتب ومنجزه. كلنا يعرف أن الغموض بشكله الواسع ظهرت سماته بشكل واضح وجلي ابان المرحلة الشمولية، حتى عد الغموض في تلك المرحلة الحرجة بمثابة حصانة راح يتمرس خلفها الكثير من الكتاب بغية الافلات من سطوة الأسئلة التي قد توجه لهم من قبل ثقافة التعسف السائدة آنذاك، فالغموض هنا أصبح نوعا من أنواع التورية التي باتت بالنسبة للكثير بمثابة السلاح الأمضى في إدارة معركتهم ضد الامتثال والمهادنة، في حين عد بعضهم الآخر الغموض عاملا مهما يستطيع الكاتب من خلاله أن يجعل المتلقي مشاركا ايجابيا وفاعلا عبر شحذ مداركه ومنحه فرصة للوصول الى المعنى الكامن في النص، من خلال تعدد الاحتمالات الماثلة في الدلالات والرموز الشاخصة في الكثير من الأعمال الإبداعية.
بين الواقعية السحرية والغرائبية
كما ذكرت الروائية والكاتبة المبدعة عالية طالب رأيها عن الغموض بقولها: لنتحدث أولا عن أسلوب عالية طالب في كتابة القصة، وهو غالبا ما يوصف بأنه غامض لا يعطي نفسه بسهولة للمتلقي، وأذكر أن الفنان يوسف العاني حين باشر بمشروعه في اختيار 100 قصة لكاتبات عراقيات لتحويلها إلى سهرة تلفزيونية، عانى كثيرا معي وقرأ كل ما حولته له، إلى أن استطاع الإمساك بقصة “ظلال حافية” وتعامل معها ككاتب سيناريو محترف، وحين احال لي النص بعد المعالجة وجدته قد فهم تماما ما أردت – الفنانة المبدعة “سهى سالم” جسدت شخصية البطلة ببراعة أيضا – هذا ليس تباهيا ولا نرجسية، ولكن أسلوب عالية طالب يستطيع أن يمزج بين الواقعية والواقعية السحرية والغرائبية والمتخيلة في وقت واحد، كتبت قصصا واقعية بحتة، وكتبت فنطازية سريالية بمزج واقعي افاد النص ولم يؤذه، وكتبت سحرية سرمدية لا تقترب من الواقعية بقدر ما تعطي ثمارها التي أردت توصيلها بطريقتي الخاصة، قد لا تعجب الآخرين وقد يتلهون بها وقد لا يفهمونها وربما يصفونها بالغامضة المزعجة أو المملة، واختلاف أمزجة المتلقي تجعلني أعرف كيف أداوي جراح القصة ببراعة من يحمل الصخرة الثقيلة على ظهره ولا يقذفها على الآخر كي لا يرهقه كثيرا، لكنه يحتال عليه بأن يجعله مشاركا في تحمل الثقل الظاهر فوق ظهر الكاتب، ولا يغادره الا حين ينتهي النص وتنهي الصورة التي ربما سيبقي القارئ يداعبها بخياله لأيام أو لساعات وحتى لو لدقائق – لا يهم الوقت بقدر ما تهم لحظة الايصال.
تعدد القراءات والتأويلات
وللروائي سعد محمد رحيم في مغزى الغموض وجهة نظر مؤكدا أن الغموضَ عنصر خفي وهو مكمِّلاً للعناصر الظاهرة التي يشترطها أي نص أدبي ناجح، وأراه معزِّزاً لقوة الجاذبية في النص.. ولا أقصد بالغموض أن يكون النص حزمة من المعمّيات، مستغلقاً، ويستحيل فهمه.. أفضل النصوص برأيي هي تلك التي تبقي جزءاً منها موارباً غير جلي تماماً، وتخلّف قناعة عند القارئ بأن شيئاً آخر في النص لم يدركه تماماً لكنه يشعر به، فهو كالروح في الجسد، كامن وفاعل ومن العسير تحديده لكن لا يمكن إنكاره.. الغموض هو ما يمنح البعد الجمالي في النص طاقته وحيويته.. إنه الخاصية المحرِّرة للنص من الفقر والشحوب، والتي تجنبها أسر القراءة الواحدة والتأويل الوحيد.. تعدد القراءات والتأويلات دالة للنص المفعم بشيء من الغموض.
الغموض نتذوقه أكثر ما نعمل على فك سحره وكشف شفراته.. الغموض مثل هالة شفيفة تتخلل زوايا النص وفراغاته.. وهو ما لا يجب أن يكون متعمداً.. الغموض هو ما يرغمنا على إعادة القراءة، نطارده بمتعة ولا نمسك به. الغموض هو كلمة السر في أي عمل إبداعي حقيقي. هو شرط الإبداع الأخير..