في روايتها “منازل ح 17”.. رغد السهيل ولعبة السرد المتقنة

988

رولا حسن /

تبدو رغد السهيل في روايتها الصادرة حديثا “منازل ح 17” مصرة على ما قاله ابن عربي “كل ما لا يؤنث لا يعول عليه”، حيث تقودنا -وبسرد استثنائي- إلى عالم استثنائي هو الآخر، ومن هنا يمكننا الحديث عن أمرين مهمين: الأول حكاية المرأة المتفردة قمر الزمان (قرة العين القزوينية)، الأمر الثاني هو التكنيك الروائي الذي استخدمته الكاتبة لتبدأ من بداية القرن التاسع، وتطوف بنا من مدينتها قزوين عبر كل مراحل حياتها ومحطاتها المختلفة، وحتى قتلها، وبحسب الكتب والمراجع فقد أعدمت قرة العين عام1852ميلادية ضمن حملة المجازر التي لاحقت الحركة البابية في كل مكانِ، وضمت أبرز رموزها (حروف حي) ومنهم قرة العين.
إن مجرد اختيار حكاية قمر الزمان كمتن للرواية هو أمر فيه الكثير من الجرأة، ففاطمة البرغاني، أوقمر الزمان، أو قرة العين، أو النقطة، أحد ألقابها. لم تكن امرأة عادية في زمنها، فهي لا تزال بالنسبة لاتباع الباب بطلة معاصرة، وداعية من دعاة التحرر والحض على حرية المرأة.
إن سلسلة حياتها ورحلاتها تترك في المخيلة انطباعا عن البعد الدرامي في هذه القضية اللاهوتية، الجديدة أو تجعلنا في مواجهة وقائع امتزج فيها الدين بالأسطورة بالشعر.
وقائع تتعلق بسيرة أنثى جريئة امتلكت لسانا واضحا ونمطا مختلفا في التعاطي مع الحادثة الدينية ويعدها الكثير من المؤرخين السبب المباشر والأساسي لقضية حرية المرأة في الشرق الإسلامي .
وباعتقادي فإن اختيار قمر الزمان وزمنها لمحور الأحداث في رواية السهيل ليس أمرا عبثيا بل هو أمر له اسقاطاته وتأويلاته المختلفة.
الجانب المعرفي:
من الواضح للقارئ أن الكاتبة عملت كل ما بوسعها من جهد معرفي لتستطلع واقع الحياة بتفاصيلها في القرن التاسع عشر وحركتها من الملبس والمأكل، حيث يرد الكثير من المأكولات القزوينية، مثل طبق قيمة نثار وحساء الأش دوغ، ومعماريا حيث يرد الكثير من الأماكن ذات الأثر التاريخي مدرسة الصالحية في قزوين وهي من أقدم المدارس الدينية وتضم مسجدا داخلها، قصر كلستان، بغداد وأبوابها: باب المعظم وباب الوسطاني وباب الطلسم وباب الحسم…. إلخ
ويمكن أن نلاحظ أن الكاتبة تروي سيرة الأمكنة إلى جانب سير الأشخاص، قزوين بغداد، كربلاء، وكأنها تؤنسن الأماكن كما أنسنت شجرة التوت، والنملة، وتحدثتا كواحد من الأشخاص الذين رووا جانبا من الحكاية وأضاؤوا ما عتم منها.
من حديث شجرة التوت العجوز: “عندما لمستني أول مرة خفت منها، تصورتها دودة أضخم من الديدان تقضم أوراقي، وتسبب لي المرض، لكنها لم تفعل سوى تأمل عروقي، فاستمتعت برقة أصابعها على أجزائي …”ص45
في منازل ح 17 لا يمكن فصل المتن عن الهامش. وذلك كونه يتممه من حيث الشرح والتوضيح والدلالة ككل الكتب التي عنيت بالتاريخ.
من هنا يمكن القول أن الكاتبة قد هيأت كل الظروف والطقوس للدخول إلى عوالم الرواية، التي اختارت أن يكون لها نمط السرّاد الشفويين من بداية الرواية التي نقلت على لسان عدد من رواياتها النساء، وهي هنا تشير إلى أن الراوية أيضا في الأصل أنثى، فجداتنا الراويات برعن في نقل الحكايات وروايتها بأساليب لا يمكن أن تنساها مخيلتنا الصغيرة.

النوافذ
كل ما سبق سوف يقودنا -وبشكل تلقائي- للحديث عن النوافذ التي فتحتها الكاتبة في جوف السرد المكتنز لتطل عبره من شباك الحاضر على إرث الماضي، حديثها عن التبجح بحداثة السرد بينما العقول متيبسة بكل فكر عتيق، وهي إشارة واضحة إلى الشيزوفرينيا التي تتغلغل في مجتمعاتنا التي تتبجح بالحداثة بينما تعيش بعقلية الماضي (إن أحوالكم عجيبة، تتبجحون بحداثة السرد بينما عقولكم تيبست بكل فكر عتيق، برؤياه تحمون، وبتقليده تشرعون، وبسببه تتنازعون تتخاصمون وما زلتم في باطن حكاية الأمس) ص172.
وفي نافذة أخرى في حوار بين قمر الزمان والكاتبة في إحدى المكتبات تخبرها قمر الزمان أنها أول من دعا إلى النظر في التأويل لتحرير الفكر والنساء.
وهنا تذكر السهيل نصرت الأمين (1308-1403 )هجري. الباحثة في الفقه الديني التي وضعت كتابا كاملا لتفسير القرآن بعنوان (مخزن العرفان في تفسير القرآن) .
وفي نهاية الرواية وبعد موت قمر الزمان، تطل الكاتبة في نافذة أخيرة لتذكر امرأة أخرى كانت قادرة على البناء والتغير، وهي الملكة أروى بنت أحمد الصليحي التي حكمت اليمن سنين طويلة (492-532) للهجرة ولقبت بالسيدة الحرة .
ما سبق تؤكد الروائية من خلاله أن المرأة اخترقت هذا المجال الذي كان حصرا على الرجل، وحاربها لتفوقها عليه ولمحاولتها نزع السلطة المعرفية في الفقه الديني عنه، لذا سعى دائما إلى قتلها روحياً أولاً وجسدياً ثانياً.
التكنيك الروائي
سعت السهيل -وبجهد واضح- إلى تقديم عملها عبر سياق مختلف، فهي بداية اختارت لعملها رواة متمثلين في مجموعة من النسوة بمن فيهم أم وجدة، بطلة النص، أو غيرها من النسوة اللواتي كن على معرفة أو صلة بقصة قمر الزمان القزوينية.
فعملية الروي على هذا النحو تمنح الحكاية بحد ذاتها بعداً روحياً، يذكرنا بجداتنا الراويات، الأمر الذي يضيف إلى السياق التاريخي الذي اتخذته الكاتبة مزيدا من المصداقية ويحفز عند القارئ ذلك الفضول للبحث والتقصي والمعرفة.

اللعبة الروائية
قسمت الكاتبة الفصول إلى منازل لها أبواب ونوافذ. هذه المنازل لها علاقة روحية بحياة البطلة قمر الزمان، وبتحولات حياتها، الأمر الذي تشير إليه الكاتبة في أكثر من مكان في الرواية: (الفراشة تنبعث من الشرنقة والقمر ينتقل بين المنازل)
(والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) ص48
فالمنازل في الرواية تبدأ بمنزل المحاق وتنتهي بمنزل العرجون القديم، الذي تنتهي فيه حياتها.
وتقول لها المرأة التي تلتقيها في صغرها (ستأخذين من القمر تحولاته) ص51
من الرواية.
كل منزل يتناول جانبا من جوانب حياة قمر الزمان، وتلك المنازل هي تسعة: منزل المحاق وفيه باب الحرية وباب الحب ونافذة.
باب الهلال المتزايد وفيه باب الحزم مع نافذة.
باب منزل التربيع الأول وفيه باب الخيبة الصغرى مع نافذة .
منزل الأحدب المتزايد وفيه باب الحلم مع نافذة.
منزل البدر وفيه باب الحلم وباب الحرب وباب الحنق مع نافذة.
منزل الأحدب المتناقص وفيه باب الشناشيل وباب الحيرة مع نافذة.
منزل الهلال المتناقص وفيه باب الحبس وباب الحزن وباب الحكم مع نافذة.
كل هذه المنازل -كما لاحظنا- تؤدي إلى أبواب، هذه الأبواب تفتح على مصاريعها عملية السرد وتفضي أسرارها، فالمنازل أسرار.
وعدد هذه الأبواب سبعة عشر بابا. وهي المنازل التي قصدتها الكاتبة في العنوان.
وقد ألحقت بكل منزل التاريخين الهجري والميلادي. إضافة إلى ذكر الراويات اللواتي تنقل بواسطتهن الحكاية، لتمنح بذلك السرد مصداقيته.
وجود الراويات على هذه الشاكلة يمنح العمل شيئا من الواقعية التاريخية، كان السراد فيما مضى، ولا سيما الشعبيين، حريصين عليهاِ، وقد لا تمثل في أحيان كثيرة سوى أنا السردية لا النفسية.
وإسناد الحكاية إلى شخصية تاريخية لا يعد حجة على وجود الشخصية ولا على ثبوت النص المروي عنها، وإنما هنا لعبة استخدمتها الكاتبة لإثبات تاريخية الفعل الأدبي، وإضفاء الشرعية الواقعية على وجوده.