السرد النثري في روايتي (مملكة المارد) و(درابين) للنايف والمعموري
عدي العبادي /
يشكل السرد عاملا مهماً في الرواية منذ ظهورها في أوروبا بوصفها جنساً أدبياً مؤثراً في القرن الثامن عشر، بل يعتبر السرد المحور الذي يميزها عن باقي الأجناس الأدبية بسبب كثرته والإطالة فيه. وفي أحيان كثيرة يغطي السرد على فكرة العمل، وحتى على الدراما الحديثة التي اشتغل عليها الروائي. وهذا ما نجده في رواية (مملكة المارد) للروائي العراقي فاضل حسين نايف، الذي جعل روايته عبارة عن قطعة سردية نثرية، فيندر أن تجد فيها حواراً او حدثاً.
تتحدث رواية (مملكة المارد) عن قرية ابتكرها الروائي من بنات أفكاره، تعيش في حب ووئام وطبيعة خلابة وصفاء، لكن تغير حال هذه القرية حادثة اختفاء فتاة شابة من القرية، ويخيم الحزن على القرية كلها عامة وأهل الفتاة خاصة، فيخرج كل سكان القرية للبحث عن الفتاة المختفية بروح التعاون لكن دون جدوى، ويسبب هذا الحدث ارتباكاً وتكثر الأقاويل، ما يتسبب بوفاة أبيها وأمها، فيما يظل أخوها سيف -بطل الرواية ومحور القصة كلها- في حزن وألم وإحراج بسبب اختفاء أخته. وبعد مدة تظهر لسيف أصوات وشخصيات في عالم الرؤيا تناديه وتطلب منه الرحيل واتباع الصوت، وبالفعل يقوم سيف ببيع كل ممتلكاته ويذهب قاطعاً الصحراء وراء الأصوات، وفي الطريق ينفد طعامه وشرابه، لكن لحسن حظه تجده بدوية جميلة وتنقذه، وهي أرملة تعيش مع عمها وزوجة عمها، تأخذه الى بيتها فيتعرف على العائلة. وبعد مدة تعرض عليه البدوية الزواج والبقاء معها، لكنه يرفض ويواصل المسير حتى يجد مملكة يحكمها مارد هو من خطف أخته وتزوجها، وهي الآن تعيش في مملكة المارد وقد أنجبت بنتاً وولداً. ويعيش سيف معهم مدة من الزمن، وبعد فترة يموت المارد فتتزوج أخت سيف بمارد ثانٍ، أما سيف فيرجع الى الصحراء ليتزوج البدوية الأرملة..
الإنس والجن
وعلى الرغم أن مملكة المارد ضربة خيالية، فقد اعتمد فاضل حسين نايف على الأساطير والموروث الشعبي الذي يتحدث عن الزواج بين الإنس والجن، لكنه يرجع الى الواقعية من خلال إدخال البدوية الحسناء. وكانت رحلة سيف في الصحراء عادية ولا يوجد فيها أي خيال، وقد أكثر الروائي من السرد والوصف، إذ كان مطلع الرواية -أي المدخل اليها- عبارة عن وصف للقرية التي يعيش فيها، إذ يقول: “برد الندى يفتق الأزهارا، وفيض المشاعر يدغدغ الأحلاما، أريج المحبة وسحر الرؤى وصفاء والأنفس تجعل من هذه الدنيا جنة وارفة الظلال، سعيدة الأوقات، هانئة ليل نهار، وفي طرف من أطراف الأرض كانت هناك بلدة حباها الخالق الخير العميم والهدوء وصفاء السرائر، مثلما وهبها اعتدال المناخ، بلدة تسبح في أريج الوداعة والصفاء، يتنفس ساكنوها المحبة والألفة، فاضت خيراتها وصفت أيامها فاستكان أهلها للراحة والدعة والأمان فغدت أحلامهم كبيرة كبر الفضاء الرحب.”
تقاليد وعادات
من خلال هذه المقطوعة النثرية السردية عرفنا أن هناك قرية جميلة ريفية، صورها لنا الروائي بأنها تعيش بسلام ومودة، فيها جمال وخيرات كثيرة، وهذا التصور يحيلنا الى دلالة مهمة، هي أن وقوع حادثة مروعة، أي اختفاء فتاة ستكون له أهمية كبيرة، وكما هو معروف أن أهل القرية يعرف بعضهم بعضاً، ولهم تقاليد وعادات، أي أن اختفاء فتاة شابة شيء خطر. وبعد أن يسرد فاضل حسين نايف جمالية القرية يتجه صوب الحادثة مباشرة، كي يشهد المتلقي الذي يتابع الاحداث ويحاول أن يعرف ما سوف يجري، فيقول الروائي عن اختفاء الفتاة: “حل صباح جديد، ولكنه لم يكن مشابهاً للصباحات التي سبقته، اذ كان محملاً برائحة ثقيلة ثقل أجنحة ليل المهمومين، صباح جديد انتشر فيه خبر اختفاء إحدى الصبايا. كان لهذا الحدث وقع كالصاعقة على الناس، وكيف لا يزلزل النفوس أمر كهذا وهم كانوا يعيشون بسلام ووئام. قال بعضهم لعلها غرقت في النهر، وكان هذا الاعتقاد هو الأخف وطأة من بين كل التصورات التي لاكتها الألسن، فيما راح بعضهم يهمس بأنها قد تكون اختطفت، او لعلها قتلت غيلة وغدراً وماجت الأنفس بعد هدوئها وصفائها.”
بعد هذا الوصف يسرع الكاتب بالأحداث من خلال دراما صامته، فيتكلم عن موت الأم والأب، ويجري مع سيف -بطل الرواية- كل ما ذكرناه، وسرعان ما يتجه صوب الصحراء ويكون له لقاء مع البدوية، وقد تكون الصحراء وتوظيف البدوية في الرواية من باب الرجوع الى الواقعية كي لا يكون العمل خيالاً وغير مقنع، فإقناع المتلقي ضرورة مهمة، لكن الروائي جعل روايته عبارة عن عمل مختلط بين الواقعية واللاواقعية، ومع انه لم يعطِ الشخصيات البعد النفسي، فإن الحوار شبه معدوم، لكنه أعطانا البعد الفكري للشخصيات من خلال وصفه كي يدخلنا عالم الاستكشاف والتحليل والبحث عن المدلول، فهو حين يصف رحلة سيف لا يخلق حواراً مع أي شخص يواجه سيف، او صديق يكلمه، او قريب، بل يتكلم عن الرحلة بطريقة فنية.
توجد حبكة أدبية وبنيوية واضحة في الرواية، واكثر ما يشد الانتباه قدرة الروائي على الوصف، فمع كل السرد لا نجد أي تشابه في المفردات، إذ أنه ليس سرداً مملاً، بل بالعكس فكله شاعرية وانتقاء. ورغم التحول من محور الى آخر، كوصف القرية ثم الصحراء والرحلة، لكن نجد في كل فصل جمالية تختلف عن غيرها، وهذا يدل على مقدرة الكاتب في النثر، ولو فكرنا بقيمة العمل سنجده يحمل طابعاً رومانسياً بزواج بطل الرواية بالبدوية وزواج أخته بالمارد الذي فضلها على بنات جلدته، وطابعاً أخلاقياً حين هبت كل القرية للبحث عن الفتاة، وكما كانت البداية سعيدة وجميلة في الحديث عن القرية وجمالها، يختم الروائي (مملكة المارد) بخاتمة نثرية جميلة حين يتكلم سيف مع البدوية التي عاد اليها وخطبها ووافق عم البنت على الزواج.
(درابين).. الغرابة والمعاناة
عنوان اختاره الروائي توفيق حنون المعموري لروايته الثالثة، التي تعد مكملة لثلاثيته التي أعلن عنها مسبقاً، بعد أن اصدر روايتين هما: (الخلوي ) عام 2013و (للهروب خطوة أخرى) عام 2014. والرواية الثالثة جاءت بعنوان (درابين)، التي صدرت أواخر عام 2015 عن دار جان – ألمانيا بـ (187صفحة) من الحجم المتوسط. حملت الروايات الثلاث طابع الغربة ومعاناة الهجرة، حيث ضمت تجربته. وكان حضور المكان ملحوظاً في النصوص الثلاثة، حيث نجد اهتمام الروائي برحلته في الكتابة، مع اهتمامه بوصف أدق التفاصيل من غير أن يترك حيزاً دون أن يشغله. واللافت للنظر أن الروايات تنتهي بشيء من الإحباط قد يكون انعكاساً لحالة الغربة التي عاشها الكاتب، فهو سافر وتغرب عن وطنه وأصدر رواياته بعد أن استقر في بلده.
اختلفت (درابين ) عن أخواتها السابقات، فهي ذات شعرية أكثر، وذات مضامين معرفية تمثل خلاصة ما مر به المعموري، مع الاهتمام بالحدث، اي واقعية فنية فيها من عناصر الدهشة التي تجعلك أمام عمل ناضج. يقول في أحد أجزائها: “من جيب من جيوب ذلك الليل الحالك، هبط زاهد الى هذا المكان تواً، ليضع نفسه في صحو جميل، قادماً من تلك الدربونة المتشحة بغبار الزمن، تختلط في نفسه كل الأنفاس الطيبة في مدينته على جانب الفرات، يحدوه أمل في أن يتم دراسته ليكمل المشوار الذي بدأه أخوه زكي، ولم يتمه.”
يصور لنا الروائي مشهداً صامتاً عن (زاهد)، الذي هو بطل روايته ومحورها، الذي كان مغترباً وعاد. يصف الكاتب التفاصيل كاملة ليضعنا في الصورة، وهذا اللون اقرب لما كان يكتبه الروائي المصري نجيب محفوظ، حين ينقل الحدث كاملاً لكي تكتمل الفكرة التي اشتغل عليها، حتى أن أحد المخرجين قال إن روايات نجيب محفوظ سيناريو جاهز. نجد المعموري يسرد عن زاهد ما يعبر عن شعوره وما يرمي اليه، لكنه سرعان ما ينهي الموضوع لينتقل الى ما يرمي اليه بأنها عملية بناء متصل في وحدة المضمون لنعرف ما يطرحه.
الرواية -كما هو معروف- من أكثر الأعمال الأدبية التي تعيش مع المتلقي بسبب الدراما، وهي أطول الأجناس الأدبية، وقد تتنوع كتابتها في أسلوب المنتج، إذ أن هناك واقعية وخيالية وعاطفية وشاعرية، وهناك ما يجمع بين الشاعرية والحدث مثل رواية (درابين)، يقول كاتبها في جزء ثانٍ:
“هل عرف كيف استطاع النوم؟ وهل نام فعلاً؟ أم أنه قد أصابه الوسن في غفوته المزعومة فرآها كانت تسرّح شعرها، تمنى أن ينهض من مكانه ليوقد الشموع، علّه يراها بوضوح، وعلى نور شاحب كانت تنتصب أمامه، فاجأته رائحة عطرها الفواح الذي كان عهده به وهو يضوع في الأرجاء، لم يتوقف ولم يصرخ ولم يمض نحوها، كان ثمة من يدفعه الى الخلف، لكنه أخيراً وجد نفسه يبوح لها بصوت مختنق وهي تحدق في وجهه …”
تظهر الشعرية في هذا النص بارزة من خلال ملامحه مع لغة عميقة، تحيلنا الدلالة الى أن السارد يحاول وضع بناء شعري بطريقة روائية معتمداً على قدرته في الإبحار في عوالم الإبداع الفني وتوظيف المفردات. ومن خلال هذا النص نفهم إبداع شخصية المروي عنه، فهو مرتبك عاشق حالم، وهناك صراع نجده في غالبية كتابات المعموري بين حب وضياع وتشتت، ففي رواية (الخلوي)، كان سالم، الشاب الفقير الذي اغترب باحثاً عن عمل خارج وطنه، فيقع في حب الفتاة بَسْمَة، إنها رسالة او أطروحة يقول الكاتب من خلالها إن الحب لا يعرف الظروف ويولد في اي وقت، وكانت انتقالة جيدة برع فيها في التحول من الهيام الى مصارحتها، وتعد عملية الانتقال في النص مهمة حساسة فيجب على الكاتب إقناع القارئ بواقعية ما يجري لأنه المخاطب في العمل والشريك الثاني في ما ذهب الى هذا الكاتب العربي، درابين.. رواية ممتعة ومكتملة فنياً تحتاج الى قراءة معمقة.