لكيلا ننسى كيف ناور حسن العاني قرار المنع من الكتابة.. استمر بتسديد “ضربات الجزاء” إلى النظام رغم الحظر

287

بغداد / باسم عبد الحميد حمودي

خدعنا ورحل وحيداً وكان اتفاقنا الضاحك الباكي يوماً أن نرحل معاَ، فقد فقدنا، كل واحد منا، الصدر الذي نحتمي به ونلوذ إليه. هو، ومنذ سنوات ليست بعيدة ضاعت منه جوهرته – أم عمار- وفقدها إلى الأبد، واختفت كثيراً البسمة التي كانت تصاحبه، بعد رحيل من أحبها وأتعبها وهو يعمل بالصحافة في سنوات خدمته الطويلة.

مرة سكن أربيل و(كلر) ومدناً كردية أخرى لسنتين، وترك الولدين والفتاة (أميمة) في حضن أمهم الكريمة المضيافة التي صبرت على الفراق زمن الحصار لتدبر أمر الإحاطة بالثلاثة الشباب الذين كانوا يدرسون في المعاهد والمدارس (عمار- مخلد – أميمة) وهم يحتاجون كل شيء.
الغائب الحاضر
أهم الحاجات وأقدسها، والدهم، الغائب الحاضر الذي كان يطل عليهم كل شهر يوماً، أو يومين، ثم يرحل مضطراً إلى مقر عمله، تاركاً الثلاثة في رعاية الزوجة التي ضحت بكل شيء لتحميه ممن كانوا يترصدون له في عمله الوظيفي كمدرس، وفي عمله الصحفي ككاتب مرموق يحب القراء كتاباته الجريئة، ولكنهم ما استطاعوا حمايته من شرور المتنفذين.. هنا وهناك.
حين زارني أبو عمار مواسياً فقداني سيدة الدار وشمسه التي غابت كان يبكي، تارة متذكراً السيدة أم عمار وحنوها عليه، ويبكي معي فقداني السيدة التي أحببت، وهو يعرف معزتي عندها، وأنا أعرف مقدار حبه للسيدة التي فارقته.
لم يقصر حسن العاني في استذكاره سيدة داره في كتابه الثامن الذي صدر عام 2019 تحت عنوان (دفتر صغير على طاولة – وجوه وحكايات)، فقد خصص لسيدة الدار فصلاً كاملاً من الـ 75 فصلاً أو مقالة.
وبقدر ما كانت تلك المقالات ساخرة تعتمد المفارقة التي يتقن لعبتها حسن العاني، كانت مرثية أم عمار الفريدة والخاصة تشكل انعطافاً في تقنين رسم الشخصيات السياسية والثقافية التي ضمتها فصول الكتاب، فقد كان قد كتب في المرثية لوناً آخر من أدب الألم والحب معاً. كشفت المرثية العزيز حسن العاني وهو يسفح دمعه أمام القارئ الذي كان يعرف من هو حسن العاني، صحفياً متفرداً وروائياً وقاصاً ممتازاً.
المنع الشديد
لا أريد هنا الحديث عن (ضربات الجزاء) الكثيرة التي سددها حسن العاني نحو الأجواء السياسية والاجتماعية في زمن النظام السابق، الذي منعه طيلة أكثر من عشر سنوات من الكتابة الصحفية والإذاعية.. حتى السقوط.
كان المنع شديداً وحازماً أبلغه به الوزير السابق حامد يوسف حمادي مباشرة، وهو من هو في القرب من رأس النظام السابق والحظوة لديه.. لكنه لم يمنعه من نشر الكتب القصصية، وذلك لإدراكه أن المنع يقتصر على الصحافة العامة. إن صدور مجموعة قصصية أو مجموعتين لحسن العاني، خاضعتين لرقابة الخبير والدائرة الناشرة، لن يدع الكاتب خارج السياق العام المفهوم.
وكان من حظ حسن العاني أن معظم أعماله كانت تحال لي كخبير، أو اقرأها بدعوة منه، لكي يأخذ فكرة (رقابية) أولى، وكان من حظي أن أجادله وأمنعه (حبياً) من الشطط، ووضع ذاته والقصة المنشورة موضع الشبهة، وقد اكتوى الأدباء بحادثة سجن عبد الستار ناصر عندما كتب قصة (سيدنا الخليفة)، ومحاكمات جمعة اللامي المتكررة، وحسب الله يحيى، وغيرهما، وصولا إلى (اختفاء) ضرغام هاشم وضياع أثره.
كانت قصة (الرجل الأسطوري) التي نشرت في المجموعة التي سميت باسمها قد صدرت عام 1986بعد مجموعته القصصية الأولى (سيد الأشجار) التي صدرت عام 1980. في هذه القصة كان العاني يسخر من رأس النظام بشكل مكشوف وهو يصور شخصية أخرى، لكني استطعت (بممارستي سطوة الصداقة وسطوة الناقد على حسن) أن أعدل فيها بـ (رضاه) وأنزع منها كل ما يشير إلى الحاكم.. أيامها. نشرت المجموعة وأنا ارقب ردود فعل الدولة والنقاد، فلم نلمس شيئاً مباشراً ولا رد فعل مشحوناً. مع ذلك تأنى حسن العاني قليلاً وظل لنحو الثماني سنوات حتى اختار من قصصه المنشورة وغير المنشورة مجموعة (الولد الكبير)، التي صدرت عام 2000.. أيام اشتداد الرقابة عليه كصحفي.
الهم الفكري
بعد سقوط النظام السابق تخلص حسن العاني من الهم الفكري والسياسي الذي كان يحيط به، وصار نشر مقالاته وأعماله الأخرى، روائية وقصصية، رهيناً بشرط الحرية الذي كان مثل السيف المسلط عليه سابقاً، لكنه امتشقه الآن ليكتب مجموعتيه (رقصة الموت) 2014و (ليلة الاحتفاء بالحرية) 2015.
لابد لي هنا من الاشارة إلى أن علاقتي الشخصية بالراحل الكريم نتجت عن عمل كنا نمارسه في الإذاعة منذ السبعينات، ثم في المجلات والصحف التي اشتغلت فيها، مثل (الأقلام)، والأماكن التي أشتغل هو فيها بعد خروجه من العمل الإذاعي الذي مارسه قبل دخولي الإذاعة عام 1973.
شكلنا والشاعر عيسى حسن الياسري والروائي عبد الرزاق المطلبي والراحل الكريم الروائي عبد عون الروضان مجموعة يأوي بعضنا إلى زملائه، ويأوون هم إليه في ذلك الزمن الصعب، حينها كنا نقتطع من وقتنا المزدحم وسعينا للإنتاج الثقافي والعيش الكريم وقتاً خاصاً بنا وبلقاءاتنا المشتركة.. خارج الزمن المتاح. هو زمن نقطعه من زمننا اليومي لنلتقي ونسمر أو نسافر الى مكان قريب لنعيش أجواء أخرى، بعيداً عن سلطة الدولة والوظيفة والعائلة.. لسويعات أو لأيام. نذهب الى الأهوار او الى أرض الجبال أو نلتجئ الى بيت واحد نبعد العائلة عنه.. لنمتلك حريتنا الشخصية في اللغو الفصيح والتشنيع على الآخرين وشتم من نشاء (أو مدحه) دون رقيب أو حسيب.
متمردون
كنا خمسة فقط، نتمرد على واقعنا، ونشعر أن ستارة قد وضعت بيننا وبين الخارج المتعب، وكان حسن العاني وحده نجم الشاشة. بمعنى أنه كان (الأدمن) أو (الأكثر) الذي يصنع الفرص للقاءات من هذا النوع، نكون فيها في منتهى السعادة والراحة الداخلية قبل أن نعود الى حياتنا اليومية المتعبة.
لفترة وتقطعت هذه التجربة الجميلة، إذ سافر عبد عون الى الأردن للبحث عن عمل، وانشغل عبد الرزاق بمرضه، وغادرنا الياسري الى الأردن أولاً، ثم الى كندا، ولم يبق سوانا.. حيث كنا حريصين على اللقاء ما استطعنا.
معظم الأصدقاء غادروا شرقاً وغرباً.. أو في التوابيت. عبد الستار ناصر- عبد عون الروضان- عبد الرحمن الربيعي والآن: حسن العاني.
تباً للحياة بعده..